النزوح القسري وإرهاب التطرف

بقلم الدكتور

رائد عبيس

 

أولت الأمم المتحدة اهتماماً متأخراً في مشاكل النزوح البشري، أو ما اصطلحت عليه ” المُشردين ” قياساً مع تاريخ المشكلة التي يتعرض لها ملايين البشر منذ زمن طويل من تاريخ النزاع البشري، وهنا لا نقصد دراسة المشكلة تأريخياً، بل قانونياً تبعاً لطبيعة المهام التي تضطلع بها الأمم المتحدة، بناءً على مرجعياتها القانونية التي تتعلق بحقوق الإنسان، وصكوك المواثيق الدولية في هذا الاتجاه.

وعندما نقول إن الأمم المتحدة تأخرت كثيراً عن إيلاء هذه المشكلة قدرا من الاهتمام من التوجيه، والتدخل، والمساعدة، فإن ذلك يعود إلى تأريخ قرارها المرقم (39) في 1997، قياساً مع تأريخ تأسيسها 1948، أو اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967 الخاصين بوضع اللاجئين فقط، إذ أصدرت في هذا القرار، وأقصد قرار (39) لسنة 1997 مبادئ توجيهية لتحليل ودراسة هذه الظاهرة الخطيرة في حياة الشعوب، وألحقتها في نيسان 1999 مبادئ توجيهية، ودليل إرشادي، للممارسات الميدانية للنزوح الداخلي، عسى أن تأخذ بها الحكومات، والمنظمات الدولية، والمحلية؛ لتكون لها عون في تحريك الحكومات، والمجتمعات، للحد من هذه المشكلة عبر تحييد المدنيين من مناطق النزاع، ودرء المخاطر المسببة، والمتوقع تسببها بمشاكل النزوح، والتشريد القسري عبر التهديد، والتصفيات، والخطف، وأخذ الفدية، والتمييز على أساس العرق، والدين، والطائفة، أو كل ما تقدم.

وعرفت المبادئ التوجيهية الصادرة عن الأمم المتحدة لعام 1997 النازحين أو “المشردين الداخليين “على أنهم: الأشخاص أو جماعات الأشخاص الذين أكرهوا على الهرب، أو على ترك منازلهم، أو أماكن أقامتهم المعتادة، أو اضطروا إلى ذلك، ولا سيما السعي لتفادي آثار نزاع مسلح، أو حالات عنف عام الأثر، أو انتهاك حقوق الإنسان، أو كوارث الطبيعة، أو كوارث من فعل البشر، ولم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها للدولة.

ويعرف النزوح الداخلي في مبادئ 1999على (أنه حركة ليست طوعية، بل إجبارية، تحدث ضمن حدود البلد الوطنية. وقد تختلف أسباب هذا الفرار ما بين نزاع مسلح، أو فوضى عنف عامة، أو انتهاكات لحقوق الإنسان، أو كوارث طبيعية، أو كوارث من صنع الإنسان).

وبما أن النزوح أو “التشرد الداخلي القسري”: يعد حركة غير طبيعية تتسبب بها الأفراد والجماعات، والحكومات، والدول أثناء النزاع والحروب والمواجهة، ومخاطر التهديد الطبيعي، وغير الطبيعي.

فإنه يعد خرقاً للقوانين الدولية، والمحلية، الضامنة للحركة الطبيعية للسكان، مثل: نص المادة13/14  من القانون الدولي لحقوق الإنسان، ونصت المادة: 12/1-2-3-4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وما جاء في دستور العراق 2005  في نص المادة: 44 /أولاً.

وعلى الرغم من الضمانات القانونية، إلا أن أعداد النازحين محلياً، أو “المشردين” داخلياً في العالم يتزايد يوما بعد يوم؛ نتيجة تزايد رقعة الصراعات المحلية، أو الإقليمية، أو الدولية، وبحسب تقرير الأمم المتحدة المرقم E/CN.4/1998/53/Add.2 كان (25) مليون شخص عام 1997، وذكر تقرير الصليب الأحمر في العدد ((875 مجلد91))، في أيلول 2009 أن عدد النازحين عالمياً داخل بلدانهم بلغ (26) مليون، وتصاعد هذا الرقم بوتيرة غير مسبوقة، حتى وصل بحسب مركز رصد النزوح الداخلي في جنيف -وهي منظمة غير حكومية – إلى ( 76 ) مليونا في نهاية2023  . وذكرت وكالة الأمم المتحدة للهجرة في تقريرها المرقم PUB2023/047/L الصادر في 07 May 2024 أن أعداد النازحين داخلياً والمشردين داخل بلدانهم بلغ (117) مليون شخص، في أكبر نسبة في تاريخ البشرية؛ نتيجة العوامل البشرية والطبيعية. ونحن في منتصف سنة 2024، ونعتقد أن العدد في تزايد؛ نتيجة استمرار الصراع العربي مع الكيان الصهيوني الغاصب، وكذلك الصراع المحلي الدائر في السودان، وأوكرانيا، وغيرها من بلدان العالم، وهذا بسبب واحد، وهو النزاع، فما بالك بعوامل أخرى مثل: الجوع، والجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، وغيرها.

وهذه الإحصائيات هي نتيجة حقيقية للتطرف في الأفكار، والسياسات، وتنامي التطرف العنيف المسلح للجماعات المتطرفة، والتطرف السياسي العنيف، والصراع الديني السياسي، والاحتلال، وتنازع المصالح المتطرف، والتطرف السلوكي، وغيرها من العوامل.

 

كيف أثرت هذه العوامل التي تقدم ذكرها على الوضع داخل العراق، وما تسبب به من نزوح وتشريد داخلي؟

تعرض العراق كغيره من البلدان إلى ظروف قاسية جداً على شعبه؛ تسبب له بحرمان حقيقي من حقوق المواطنة، منذ نشأة دولة العراق الحديثة، وما قبل تأسيس الأمم المتحدة، وما قبل التفاتتها لمشاكل النزوح الداخلي، وما بعدها، وما بعد 2003 وإلى يومنا هذا.

أخذت هذه المشكلة في العراق أنماطا مختلفة، تارة نتيجة قرارات حكومة، وتارة أخرى نتيجة اقتتال قومي، كالذي افتعله صدام حسين مع الأكراد، أو طائفي كالذي توجه به مع الشيعة، أو سياسي عشائري كالذي أثاره مع السنة، والعشائر المقربة منه، أو نتيجة الحرب مع إيران، وغزو الكويت، والحرب مع أمريكا، وحلفائها في التسعينيات. وكذلك مع الخصوم السياسيين من أحزاب وأفراد. وتسببت ممارسات صدام حسين بشكل كبير بالتهجير القسري، والنزوح الداخلي، والهجرة لدول أخرى، وتشريد العراقيين من قراهم ومدنهم. ودليل ذلك إزاحته أكثر من (5000 ) قرية في شمال العراق، فضلاً عن الجنوب.

وتواصلت حالات وظاهرة ومشكلة النزوح القسري بعد 2003؛ بسبب تنامي التطرف، وتزايد نشاط الجماعات الإرهابية المتطرفة، حتى وصل الأمر إلى ظهور القاعدة، التي مكنت داعش من طموح تأسيس دولته، والعمل على توسيع دائرة الاستغلال البشري للسكان المحليين؛ لتنفيذ مخططاته، أما بأخذهم رهائن محتجزين في مدنهم، مثل: حجز سكان مدينة الموصل القديمة، ومنعهم من الخروج من المدينة، وكذلك الأمر مع رهائن من بلدة سامراء، إذ منعوهم من الخروج منها، أو التعمد بتشريدهم لاستغلال موارد الأرض، وأخلائها لتعزيز سيطرتهم عليها، كما أعلنت ذلك (CNN) العربية الإخبارية في (5) مارس 2014 – إلا ” آمرلي” المدينة التي عصت عليهم حينها- وهي المرحلة التي تزايدت بها عمليات النزوح القسري، والتشريد إلى أعلى مستوياته في 2014 في أثناء سيطرة داعش على الموصل، وما حولها.

وهنا نؤكد النقطة الأساس في هذا المقال، وهي بيان أثر التطرف وإرهابه، وما قامت به الجماعات الإرهابية من جرائم التشريد، والنزوح بحق المواطنين، وكل المجريات السلبية، والعنيفة، والقاسية التي تعرضوا لها في أثناء النزوح، وعدم تقييد المشكلة ببعدها القانوني فقط.

وما حصة العراق من هذه الإحصائيات العالمية للنزوح المحلي في هذه السنوات الأخيرة؟

بدأت الأرقام تتصاعد نتيجة أعمال العنف المتطرفة، والصراع المسلح بين الجماعات، والتنظيمات الإرهابية، والجيش، والشرطة المحلية، أو الجماعات المسلحة الموالية للحكومة المتصدية لها، فبلغت في عام 2008 أعداد النازحين إلى 2,840.000. وتصاعد بعد سيطرة داعش على الموصل في منتصف 2024 إلى أن وصل  5000000,3000مليون وثلاثة مئة شخص نازح مشرد من مناطق سكناهم، في آخر إحصائية – كما أشارت لذلك مصفوفة مؤشرات العودة في نتائج الجولة السادسة – أن العراق في كانون الأول لعام 2019- وبعد التحرير أخذت الأرقام تتناقص؛ نتيجة العودة الطوعية، وهناك من امتنع عن العودة. وقد كان لهذه الأعداد الكبيرة آثار سيئة على الطبيعة الديمغرافية والهوياتية للسكان، وما تضاعف لها من آثار أخرى على مستويات اقتصادية، وسياسية، وتعليمية، واجتماعية، وغيرها؛ نتيجة الاتساع غير المباشر للإرهاب والتطرف، وآثاره المحسوبة، وغير المحسوبة، ومخاطره القريبة والبعيدة بين النزوح المؤقت، أو النزوح طويل الأمد، ومدى تأثيرهما على الوضع الإنساني في الداخل العراقي، وعلى طبيعة الحياة في موطن النزوح، أو المواطن الأصيلة.

فمشكلة النزوح القسري، يجب أن تدرس من حيث أسبابها الرئيسة، وأولها التطرف الفكري، والتطرف السلوكي العنيف، بدلاً من الانزياح بهذه المشكلة إلى أبعادها القانونية الإجرائية فحسب، وهذا لن يحل المشكلة على المستوى البعيد، كما هو الحال في مخيم الهول في سوريا، ومخيم الجدعة في العراق، وغيرها من مواطن الجماعات الإرهابية، الذي خالفت به هذه الدول المبادئ التوجيهية الأممية.