ataba_head
banarlogo

العنف الجنسي سياسة منهجية لنظام البعث

د. قيس ناصر

 

   كانت حقبة نظام البعث مغلقة جداً، وساد الصمت فيها عن الجرائم المُرتكبة، وكل ما كُتب عنها وما سيُكتب يبقى بإطار النظرة الجزئية غير الوافية لوصف ما حدث وتحليله. يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على الطريقة التي اعتمدها نظام البعث في العراق لارتكاب جرائم العنف الجنسي المنهجي وإضفاء الطابع المؤسساتي عليها، إذ تم فيها إجبار العديد من النسوة على القيام بأشياء ضد إرادتهن من خلال العنف، أو الإكراه، أو التهديد، أو الضغط الثقافي، أو الوسائل الاقتصادية، على وفق ما أشارت إليه تعريفات الأمم المتحدة، التي أثبتت تقاريرها، والتقارير الدولية، وإفادات الضحايا، وكتابات الباحثين ما أرتكبه نظام البعث في داخل العراق وخارجه من جرائم للعنف الجنسي.

   في تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة في شباط 1994م الذي قدم وصفاً عن حالة حقوق الإنسان في العراق، فقد أشار فيه المقرر الخاص إلى شهادات الضحايا من النساء، وتضمن قصة إحدى الضحايا من النساء الكورد التي تمت مقابلتها، التي تحدثت في أفادتها عما جرى لها في سنة 1989م أثناء الاحتجاز، إذ تم تجريدها من ملابسها وضربها وحرقها بالسجائر في كل أجزاء جسمها، ومُدّت عارية على سُلم يسري فيه تيار كهربائي وهُددّت بالاغتصاب. وذكر التقرير أيضاً أنَّ العديد من النساء هُددنَّ بالاغتصاب وأُجبرنَّ على مشاهدة أشرطة فيديو تصور اغتصاب نساء محتجزات، وإن المسؤولين عن إعداد هذا التقرير وصفوا ما تعرضن له هؤلاء النسوة نتيجة لبواعث سياسية لا على أساس الجنس، إلا أنَّ هذا الرأي يتنافى مع قُصص أُخرى سيأتي ذكرها في المقال.

   وفي تقرير صادر عن وزارة شؤون الخارجية والكومنولث البريطانية في شهر تشرين الثاني 2002م بعنوان صدام حسين: جرائم حقوق الإنسان وانتهاكاتها، تأكيد لاستخدام نظام البعث العنف الجنسي والتعذيب ضد النساء وتعرضهن للاغتصاب من الأجهزة القمعية في أثناء الاعتقال أو من رموز السلطة كجزء من سياسة النظام البعثي، إذ تضمن التقرير شهادة للضحية (ن.ش.ش) وما تعرضت له من طرد وسجن ومصادرة للأموال فضلاً عن تقديمها وصف لحالة المرأة العراقية مثل تعرض بعضهن للاختطاف في أثناء سيرهن في الشوارع من أفراد عصابة عدي الذي عُرف عنه ارتكابه لجرائم الاغتصاب، كذلك احتوى التقرير على بعض الوثائق مثل البطاقة التعريفية لأحد أفراد الأجهزة القمعية (الجيش الشعبي) وأمام نشاطه مكتوب (الاعتداء على شرف النساء) وقد عُثر عليها في مديرية الأمن في السليمانية. وهنا إشارة إلى أن ممارسة الاغتصاب كانت منتشرة بشكل كبير على وفق سياسة منهجية وليست بوصفها شكلاً من أشكال التعذيب إنما جريمة مستقلة.

(الوثيقة أعلاه مصدرها تقرير وزارة الشؤون الخارجية والكومنولث البريطانية التي تم الحصول عليها من مشروع العراق للبحوث والتوثيق في جامعة هارفرد، أما توضيحها فمصدره كنعان مكية).

   وفي تقرير معهد التحقيقات الجنائية الدولية بعنوان ملحق خاص بالعراق للبروتوكول الدولي للتحقيق في جرائم العنف الجنسي في حالات النزاع وتوثيقها صدر في 2018م، فقد تضمن وبشكل مختصر إشارة إلى العنف الجنسي الذي مارسه نظام البعث ضد النساء، مثل: جرائم اغتصاب الضحية أو إرغامها على مشاهدة اغتصاب ضحية أخرى، وإخضاعهن لمعاملة مُذلة، والتعرّي القسري من خلال التهديد، مع الإشارة إلى أنَّ العنف الجنسي والتعذيب نفسهما قد ارتكبا ضد المعتقلين حيث تم فصل النساء عن الرجال واغتصبن بشكل متكرر من عدّة جُناة، بعضهن أمام أقاربهن، وبعضهن الآخر أمام نساء أخريات، وبعضهن قد فارقن الحياة نتيجة هذا العنف.

   لقد ركزت التقارير السابقة في موضوع جرائم العنف الجنسي المرتبط بنظام البعث من خطف واغتصاب في ثمانينيات القرن العشرين في مناطق عدة من شمال العراق وجنوبه، وفي التسعينيات قد سادت هذه الجرائم ولا سيما مع عدي عبر قيامه بعمليات خطف واغتصاب للشابات والفتيات العراقيات البغداديات، مع تأكيد القول إن التقارير التي تمت الإشارة إليها لا تتطرق لحقبة ميليشيا الحرس القومي التابعة لحزب البعث في الستينيات، كذلك لم تُشر إلى حقبة السبعينيات وما جرى فيها من ممارسة لسياسة منهجية للعنف الجنسي أرتكبها رموز نظام البعث من خلال اختطاف فتيات شابات من عوائل أرستقراطية بغدادية وهنَّ في طريقهن لأماكن عامة، أو ما جرى من خطف واغتصاب في مخيم عشتابا سنة 1982م التي ذكرها أحد المختصين.

   إنَّ الحديث التفصيلي عن جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها نظام البعث في العراق بحاجة إلى آلاف الأوراق لتدوينها، وهذا ما نُقل عن الدكتور صاحب الحكيم الذي أفرد لدراسة هذه الجرائم تقريراً خاصاً بعنوان: تقرير عن اغتصاب، وقتل، وتعذيب أكثر من 4000 امرأة في بلد المقابر الجماعية (العراق)، وقد اعتمد في إعداده على مئات الوثائق والصور التي تثبت ارتكاب نظام البعث لجرائم العنف الجنسي، بدءاً من رئيس النظام صدام وارتكابه لجرائم الاغتصاب سواء لبعض زوجات المعتقلين، أم زوجات المسؤولين البعثيين، واغتصابه لطالبات الجامعات، فضلاً عن ذكر أسماء 31 ضحية قد اغتصبهنَّ المجرم عدي، مثل: قصة العروس التي هي زوجة أحد الطيارين وقد اغتصبها عدي في ليلة زفافها وانتحرت على إثر ذلك. واحتوى التقرير على العديد من قصص جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها النظام البعثي.

 

وتوجد قصص أُخرى تحدثت عنها الصحف الغربية والعربية ولاسيما في السنة الأولى من زوال حكم الطاغية في 2003م، كذلك كُتبت مؤلفات عدة عما تعرضن له النسوة العراقيات من جرائم تعذيب وعنف جنسي مثل كتاب (ميادة بنت العراق) لمؤلفته جين ساسون الذي تُرجم من الإنجليزية إلى لغات عدة، وقد وثقت الكاتبة من خلاله قصة ميادة العسكري التي هي حفيدة جعفر العسكري من جهة أبيها وحفيدة ساطع الحصري من جهة أُمها، وذكرت ميادة ما شاهدته من معاناة بعض السجينات في المعتقلات ولاسيما في مديرية الأمن، مثل تعرض بعضهنَّ للتعذيب وهنَّ عاريات تماماً بهدف إذلالهن، أو التمتع الجنسي السادي بعذاباتهن، وهدر كرامتهن، وأحياناً تم اغتصابهن دون أن تجرؤ المرأة المغتصبة جنسياً التحدث بذلك، ولم يجرؤ النسوة الأُخريات الاستفسار عن ذلك على وفق ما ذُكر في الكتاب.

ولم يكن هذا الحال خاصاً بالمرأة العراقية ومعاناتها من جرائم نظام البعث، فالمرأة الكويتية أيضاً لم تسلم من جرائم العنف الجنسي التي اعتمدها النظام البعثي في أثناء احتلاله للكويت سنة 1990م، وقد كتب عن هذا الموضوع ووثقه العديد من المختصين الكويتيين والعراقيين فضلاً عن التقارير الأممية.

وفي التوثيق الأدبي لجرائم العنف الجنسي التي ارتكبها نظام البعث كتب الروائي السوداني عماد البليك رواية دنيا عدي وتضمنت في جزء منها ما جرى للضحايا بأسلوب روائي مستوحى من جرائم عدي. ومن الجدير بالذكر إنّه يوجد العديد من مقاطع الفيديو على موقع اليوتيوب التي توثق جرائم العنف الجنسي لنظام البعث في العراق.

وليس بالإمكان القول إنَّ المقال قد تضمن وصفاً شاملاً لمشهد جرائم العنف الجنسي التي ارتكبت، بقدر ما هو محاولة لتقديم إشارات بسيطة للموضوع الذي بحاجة إلى دراسات أُخرى، فحال المرأة في ظل نظام البعث بحاجة إلى دراسات عدة وليس مقالاً فحسب، فقد أُجرم بحقها مثلما أُجرم بحق الرجل، وربما أكثر فقد انتهكت حقوق المرأة العراقية، فضلاً عن ذلك تحملت مسؤوليات جمة سواء اللواتي غُيب ذووهنَّ أو اللواتي تعرضنَّ للاحتجاز التعسفي والتعذيب والإعدام بلا محاكمة وبإجراءات موجزة أو إعدام تعسفي، وتم اعتبار بعضهن وفي كثير من الأحيان مجرمات بالتبعية والتشجيع على الطلاق منهنَّ وعانن التهجير القسري وتبعاته.

وعلى وفق ما تم ذكره في بعض ما ورد في السطور أعلاه هناك من أشار إلى أنَّ جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها النظام البعثي تُعتبر شكلاً من أشكال التعذيب اتجاه المعارضين، إلا أنَّ الموضوع الذي ينبغي تأكيده هو أنَّ جرائم العنف الجنسي جريمة وانتهاك لحقوق الإنسان وليست شكلاً من أشكال التعذيب فحسب، فهو تهديد لحق كل فرد في حياة كريمة، وللسلام الجماعي وأمن الإنسانية كما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.