ataba_head
banarlogo

في ذكرى المقابر الجماعية

علي الفريجي

 

نستطيع إدراج نظام البعث في العراق في قائمة الأنظمة الدكتاتورية في العالم، ولكننا لا نستطيع أبدا وضع ذلك النظام الفريد من نوعه في إطار منهجي واحد مع تلك الأنظمة الدكتاتورية. فالكلام عن الدكتاتورية مصطلح علمي تندرج في إطاره هذه الأنظمة مجتمع، قد يدفعك لاستبعاد نظام البعث في العراق، لأننا نتكلم عن أنظمة متشابهة، يمكننا وبكل تأكيد أن نكتفي بتسميتها (أنظمة دكتاتورية)، ونتكلم عنها كلها مرة واحدة، أو عن خصائص كل نظام منها لوحده، وذلك على وفق المناهج العلمية المتعددة.

‏واستنادا إلى الآراء العلمية، لا يمكننا تطبيق ذلك على حالة نظام البعث البائد في العراق، اللهم إلا في حدود ضئيلة، لأن ذلك النظام تجاوز، وإلى مدى بعيد، الجغرافيا الدلالية للمصطلح نفسه، وخرج عن إطارها المعرفي، ولهذا ينبغي أن يسمى هذا النظام باسمه ذاته (النظام البعثي).

لقد بدأ (النظام البعثي) في العراق والكثير من المتصديين، حتى لأوليائك الذين كانوا من مؤيديه ثم تمردوا عليه، نظاما مختلفا تماما، يتسم بالاستهتار الكامل بكل ما يمكن عدها خطوطا حمراء حتى في سلوكيات الأنظمة الدكتاتورية الأكثر بطشا في العالم.

‏ولم يقم هذا الاختلاف إلا على أسس علمية وموضوعية أيضا، رسخت طبيعة النظام الدموية وبلورته، ليس بحق المواطنين كأفراد فحسب، بل بحق المواطنين كمجموعات، شكلت الغالبية الساحقة للسكان في العراق.

ولهذا فإن الواجب الأخلاقي والقانوني يحتم علينا أن نعمل بكل جد واجتهاد لتعريف الناس بجرائم البعث البشعة التي أتت على العراق وعلى شعبه إلى الويلات، فدمرت مكانته الإقليمية والدولية المرموقة، وحطمت اقتصاده، وغيبت موقعه الحضاري، ومزقت الهوية الوطنية. وعلى رأس جرائم نظام البعث هي جريمة المقابر الجماعية التي تعدُّ وبكل المعايير جريمة إبادة ضد الإنسانية.

‏كانت أرض وادي الرافدين على موعد مع هستيريا الموت الجماعي والإبادة البشرية حين ساقهم القدر للوقوع تحت حكم أقسى الأنظمة الشمولية التي قادها حزب البعث المنحل الذي ترأس نظامه شخص لا يمكن أن تصف وحشيته وعشقه لسفك الدماء أية جملة، والذي ارتكب من المجاز ما لا تقوى على حمل أوزارها أية ذات الإنسانية.

‏لقد عرفت الأمم المتحدة المقبرة الجماعية بأنها: (كل قبر واحد أو حفرة أو سرداب يحتوي على ثلاث جثث بشرية أو أكثر، وقد دفنوا بعد إعدامهم، سواء كانت هويتهم معروفة أم غير معروفة).

فيما عرّفت بعض المنظمات المقابر الجماعية على أنها: (الأرض أو المكان الذي يضم رفات أكثر من ضحية تم دفنهم أو إخفاؤهم على نحو ثابت دون اتباع الأحكام الشرعية والقيم الإنسانية الواجب مراعاتها عند دفن الموتى، وبطريقة يكون القصد منها إخفاء معالم جريمة إبادة جماعية يقوم بها أفراد أو حكومة أو جماعة وتشكل انتهاكا لحقوق الإنسان).

‏وفي الحالة العراقية ارتكب نظام صدام جريمة المقابر الجماعية من خلال قتل عشرات الآلاف من المدنيين غير المقاتلين بما فيهم النساء والأطفال، وقام النظام المجرم باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، مع الإشارة إلى أن ذلك النظام قام بدفن الآلاف من الضحايا وهم أحياء، نساءً ورجالا وشبابا وشيبا في مناطق مختلفة توزعت على معظم جغرافيا العراق.‏‏‏

إن الحديث عن هذه الجرائم البشعة ليس لتذكير الضحايا وذويهم ونكئ جراحهم، بل لتسليط الضوء على مخاطر التفكير بالسماح لمثل هذه الأيديولوجيا ومرتكبيها بالعودة في صورة أو أخرى لممارسة جرائمهم أو تبييض صفحاتهم، ولاسيما إنهم لم يفكروا أصلا بجرائمهم أو الاعتذار للشعب العراقي وضحاياهم.

كذلك لدعم أية جهود في الكشف عن مصير الآلاف من الضحايا أو المفقودين وحماية تلك المقابر من العبث أو التشويه، فضلا عن ضرورة وضع آليات لتعويض ذوي الضحايا وجبر الأضرار المادية والمعنوية التي واجهوها طوال عقود التغيب ومجهولية مصير أحبابهم.

وغني عن القول إن وضع آليات مؤسسية تضمن وجود عملية مستدامة للمساءلة عن جميع الأشخاص المفقودين، بصرف النظر عن خلفياتهم العرقية، أو الدينية، أو المناطقية، أو ظروف اختفائهم، وصياغة مبادرات لتلبية احتياجات عوائل الضحايا والجهود المبذولة لتوسيع القدرات المؤسسية والقانونية للمؤسسات ذات الصلة. بالإضافة إلى تدريب العلماء والمختصين على أساليب التعرف المستند على الحمض النووي شيء مهم يجب العمل عليه وتلبية متطلباته.

إن محنة العراقيين التي ابتدأت عمليا عام 1963م تتطلب وقوفا على مصائر الضحايا الذين سقطوا يوم 8 شباط على يد مجرمي البعث، حين كانت شهية البعث الدموية في ذروتها، ثم تجددت هذه الشهية للقتل بعد تولي صدام قيادة الدولة إلى أبعد الحدود السوداء، ابتداءً بالبطش بالزمرة التي رفعته لقيادة الحزب والدولة ثم حروبه الدموية التي كانت بالواقع شكلا من أشكال الإبادة الجماعية للشعب وتدميرا منهجيا للدولة وأسس بنائها ومستقبلها ومرورا بجرائم المقابر الجماعية.

إن الأجيال التي عاصرت مرحلة الدكتاتورية البعثية، تقع على عاتقها مسؤولية تعريف الأجيال الجديدة بتلك المرحلة وتحدياتها ومستوى الإجرام والتهميش الذي عاشه الشعب وقصص المقابر الجماعية وزنازين التعذيب. وعلى الرغم من أن بعض الأجيال قد لا تظهر قدراً من الوعي بالمقابر الجماعية، إلا أنه ينبغي على القادة السياسيين ووسائل الإعلامي الاضطلاع بأدوارهم في تسليط الضوء على تلك الجرائم والتأكيد على ضرورة عدم تكرارها.