banarlogo

من هم ضحايا المقابر الجماعية في زمن نظام البعث؟

الأستاذ عبد الهادي الركابي

ضحايا المقابر الجماعية… شهداء تمّ إعدامهم من دون قرارات حكم أو محاكمة أو تحقيق، ومن دون اتباع الأُصول والأعراف التي تليق بأدنى حد من حدود احترام حقوق الإنسان.. فالتحقيق الذي استخدم معهم يبدأ بـ (الفلقة) وينتهي بثقب الرأس بـ (الدريل)، أو رمي الضحية في أحواض (التيزاب)، أو تفجير الضحية بوضع عبوة ناسفة في ملابسه، أو دفنه حياً مع مجاميع أُخرى في قبور لا يزال أغلبها مجهول المكان..فضلاً عن عدم تسليم الجثث لذويهم ومنعهم من إقامة مجالس العزاء، إمعاناً  في زيادة عذاباتهم وحزنهم على فراق الأحبة.

والمتمعن جيداً في سير هؤلاء الشهداء وطاقاتهم الخلاقة وكفاءاتهم الوطنية، يدرك حجم المأساة التي حلّت بالعراق، كثير من هؤلاء يمثلون نخبة متخرجة من كليات علمية أو طلبة دراسات عليا أو طلبة في مرحلة الدراسة الإعدادية أو أعضاء في منتخبات رياضية وطنية، لقد حلت مأساة وكارثة جديدة في العراق غير ما حل به من كوارث بفعل قرارات السلطة حين أقدم البعث المقبور بخطة محكمة على إبادة جميع العقول الخيرة والـــنيرة والخلاقة في العراق، وتشريد القسم الآخر، وابتكار أساليب في الترويع والقتل لم تدركها أساليب القرون المظلمة.

هذه الأسماء العراقية الناصعة لم تختلف مع السلطة حول حصتها من النفط، ولم تحاسب السلطة على ضياع الخزينة والمال العام، ولم تسأل عن الإيرادات، ولم تقترف جريمة من الجرائم التي يشملها قانون العقوبات العراقي، ولم تخالف منطق الحياة… كل جريمتها أن لها صوتاً عراقياً يختلف عن صوت السلطة، رأياً يختلف عن رأي الدكتاتور. وعدم تقبل الرأي الآخر ليس حالة طارئة في عقل السلطة والدكتاتور، بل هي عقيدة راسخة بدأ بها حياته وممارساته المريضة.

المأساة أن العالم وقف ولا زال يقف مشدوهاً وفاغراً فمه تجاه ما يظهر من المجازر والمآسي الإنسانية في العراق، وتبدو المأساة أكبر حجماً حين لا تبدي المنظمات الإنسانية والمطالبة بحقوق الإنسان أي اكتراث لهذه المأساة البشعة التي حلت بشعب العراق منذ سنين طوال. وليس فقط الانتهاكات المريرة لحقوق الإنسان ما تميز السلطة البائدة، وليس فقط الحملة التي شنها النظام بقيادة المجرم قصي صدام بقتل الآلاف من السجناء السياسيين تنفيذاً لحملة سميت (حملة تنظيف السجون)، وليس في المحافظة على الأدلة الثبوتية ووسائل التعذيب والموت وقاعات التعذيب التي يمارس بها النظام إرهابه وتسلّطه، إنما في الأعداد العديدة المغيبة من قبل السلطة من رجال السياسة الوطنية والعلماء والاختصاصيين، التي لم يعرف مصيرها منذ عشرات السنين ولم يتم التعرف على طريقة إعدامهم والتخلص من جثثهم إذ كانت السلطة قد قتلتهم دون محاكمة. ويقولون لك إن الشعب العراقي كان مستكيناً تحت سكين الطاغية، وهذه التضحيات الجسام، وهذه العطايا التي حصدتها أجهزة القمع في دولة الظلم والظلام دليلاً على استمرار العراقي في معارضة السلطة الباغية، ودليل على همجية السلطان البائد، وقدرة العراقي على تواصل النضال والكفاح من أجل إسقاط كل ما يمتّ للسلطة البائدة بصلة.

لم يصبر العراقي حتى تتحول المقابر المجهولة والسرية إلى مزارات يتمعن فيها العالم وتستذكرها البشرية كزمن من أزمان الموت والعذاب الذي حل بالبشرية، لم يصبر العراقي ليجمع عظام الشهداء مجهولي الهوية والأسماء ليصيّر لها نصب تذكاري عالمي تقرأ فيه أجيال العراق وجميع الأمم المحبة للسلام شاهداً من شواهد عصر الموت الصدامي، لم يتم تجميع شهادات الشهداء ولا حاجاتهم الشخصية لتصير متحفاً للتضحية والعطاء بإشراف الأمم المتحدة، لم يتم جمع ضفائر الفتيات ولا أساور الأطفال المدفونين تحت التراب لتصير قرائن على زمن عاهر عاث فيه الحاكم المستبد ليس في قدراته وثرواته وإنما استخف بحياة شعب بأكمله دون استثناء.

نأمل أن تستمر إلى أن تكتشف آخر مقبرة جماعية في العراق، فهناك مقابر تم اكتشافها، ومقابر لم تكتشف بعد، فهل كنا نمشي على تراب يضم هذه الأرواح النجيبة والأجساد الطاهرة؟ هل إنّ أرض العراق استحالت إلى مقابر متوزعة في كل الأركان؟

متى سننتهي من تجميع موتانا وبناء قبورنا؟ متى نلم حزننا ونداري وجعنا؟ بعد أن خلصت أرواحنا من فقدان أولادنا وفراق أحبتنا.