ليعلم من لا يعرف المقابر الجماعية

د. عطور الموسوي

تمر علينا ذكرى اكتشاف اول مقبرة جماعية عام 2003م وحدد على أساسها السادس عشر من ايار من كل عام يوما للمقابر الجماعية في العراق.

ولمن لم يعش حقبة البعث المظلمة أود أن أوضح ان المقبرة الجماعية هي آخر المطاف الذي يزج فيه المعارض للطاغية.. فكل من لم يسر في ركب البعث المشؤوم كان يمر بسلسلة محن عصيبة تتشابه نوعاً ما في كل محافظات العراق المبتلى بحكومة القرية!

الاعتقال: وهي عملية خطف من قبل أزلام الطاغية من أي مكان يتواجد فيه المرء بيت، مدرسة، جامعة، سوق.. يقتادونه كما هو في لحظتها دون أن يمهلوه انتعال نعله أو ارتداء قميصه، أو إكمال وجبة طعامه!

يسوقونه الى دائرة الامن (أمن حماية الطاغية وليس المواطن).. وما اكثرها فقد استحدثت دوائر في بيوت المسفرين قسراً لتكون مقارًّا لتلك المهمات القمعية بعد ان تسلم الطاغية صدام الحكم وشن حملات اعتقال لم تستثنِ رجلاً او امرأة في كل مراحل أعمارهم..

بعد سلسلة مريرة من الاستجواب والتعذيب بأبشع الوسائل بعيداً عن أي بند من بنود حقوق الإنسان يساق البعض منهم الى محكمة الثورة لتحكم بأحكامها الجائرة اعداماُ أو سجناً مؤبداً.. أما البعض الأغلب فهم يساقون الى الدفن الجماعي في تلك المقابر التي ملأت أرض العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وأحياناً كثيرة دون المرور بالمحكمة..

وخاصة بعد الانتفاضة الشعبية الشعبانية إذ تأتي الحافلات محملة بالعوائل وتدفن حيثما شاء الجلاد وحتى وجدت سيارات كاملة زجت بمن فيها في مقبرة جماعية في مدينة الحلة!

فضلاً عن كتائب الإعدام التي ترافق السيارات الناقلة للمعتقلين وتنصب على حافة حفر كبيرة أعدتها آليات الحفر المرافقة ثم تطلق العيارات عليهم وترمى الجثث بين قتيل أو منازع للروح.. وتهيل نفس الآليات التراب عليهم دون أي وازع من ضمير، بل طاعة عمياء للأوامر الطغاة.. إذ يتواجدُ مسؤولٌ حزبي يتابع التنفيذ!

ولعل من أكبر المعتقلات التي أخفت خيرة أبناء العراق هي ما سمي بالشعبة الخامسة وقيل أن المفرمة البشرية نصبت فيها لإحالة المعتقل إلى قطعٍ ترمى في نهر دجلة.. فضلاٌ عن أحواض الإذابة في التيزاب وترحيل ما تبقى للدفن الجماعي.

المقابر الجماعية لم ينته عددها لحد اليوم.. ولم تأخذ الاهتمام المطلوب بها! لا كرامة للشهداء الراقدين فيها.. ولا تعريفاً بجرائم صدام وزمرته المجرمة.

لم نجد ولا شاخصاً في أي مقبرة يدون فيه تاريخ افتتاحها وعدد المغدورين فيها!! ولا سياج يليق بما تحويه تربتها من أبطال واباة.

ليبقى الأهل في لوعة دائمة منذ اعتقال الأحبة، ينتظرون رفاتهم.. ولعمري هذا أشد عذاب نفسي لذوي الشهداء في العراق اختصهم به طاغيتهم فهم لن تهدأ نفوسهم ولم يفقدوا الأمل في العثور عليهم حتى يلقوا بارئهم يشكونه ظلم الظالمين.

وفي هذا اليوم نناشد الحكومة بتحويل مقرات القمع البعثي الشعبة الخامسة واخواتها أينما كنّ إلى معالم تؤرخ تلك الحقبة وتؤرشف طرفي معادلة الضحية والجلاد.. لقد مضى أكثر من عشرين عاماً ولم يشيد أمام الشعبة الخامسة إلا نصب الشهيدة العراقية الذي كان اختيار الساحة من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء عام 2011م بمثابة تكريم لضحايا الشعبة الخامسة على مر عقود البعث الدامية.

نعم شخّص النصب شامخا لشهيدة ارتدت العباءة العراقية وحملت بيدها اليمنى طيوراً ذهبية تعانق الشمس نورا وسموا… بدت هذه الشهيدة متسامية على كل صفحات الآلام والعذابات التي جسدتها جداريات قاعدة النصب ببراعة الفنان.

تألقت في أرض مدينة مولانا راهب آل محمد عليهم السلام وكأنها تشاركه سجون بني العباس وتستمد من مناراته إشعاعات الاباء والشموخ.

فالله الله بإرث الشهداء.. الله الله بتاريخ ناصع لم ولن يتكرر.. الله الله بأماكن اضطهد فيها المؤمنين ولو أذن لها الكلام لروت لنا أساطير من بطولات ذهلت حتى الجلادين.. لنحيي ذكراهم وإلا لن يرحمنا التاريخ ولن تغفر لنا الأجيال إن أهملنا وتعمدنا النسيان.. فالشعوب تستمد وجودها من تراث شهدائها.

16/5/2024

6 ذي القعدة 1445