قاضٍ في كيس صمون!!
د. عطور الموسوي
حكت لي (بتول) أنها رأت بأم عينيها رجلا وقورا متقدم بالسن سيق زجرا الى غرفة التعذيب، والمحققون والجلادون ينادونه بالقاضي فهم وإن أمعنوا في إذلاله يعرفون في دواخلهم معنى وهيبة هذا المنصب الذي يحكم بين المتخاصمين منذ بدايات وجود القانون في العالم، هاهو اليوم يخرقون كل قوانين الكون باعتقاله دون أمر قضائي وأدانوه لأن ابنه قد عارضهم، ويمارسون معه آليات قمعهم المرعبة أملا في اعتراف منه يدلّهم على مكان ولده لاعتقاله، وهو يرفض الادلاء بما يريدون..
وربما لا يعرف أين ولده ولكن هل يصدقون؟؟
حتى أوسعوه تعذيبا فمات على أيديهم، قالت وهي تغالب دموعها أنه قد طلب منها (رحيم) الحارس أن تأتي إلى غرفة التعذيب، هناك عرفت بانه يريدها ان تساعده في إدخال جثة هذا القاضي في كيس كبير من قماش(الجادر) كانوا يجلبون لنا فيه (الصمون)، تقول: تفاجأت بمنظرهذا الرجل المسنّ الوقور بدا كأنه نائما بسلام، وقد ارتدى(روباً) صوفياً مربعات هم اعتقلوه بملابس البيت ..
وقد فارق الحياة دون أن يعترف عن ابنه رياض أو ضياء.. ولأنه مسنّ لم يتحمل تعذيبهم الوحشي، ولعل وجوده تحت سياط هؤلاء كان أشد ايلاما في نفسه وهو يرى كل الحقوق التي كان يقضي بارجاعها الى أهلها ينتهكونها دون وازع من قانون أو رقابة..
استطردت قائلة: ساعدته وأنا أرتجف، ولم أتخيل نفسي يوما بهكذا موقف انا أخشى رؤية الموتى ولم أشهد موت أحد من أقاربي أبدا.. لكنني ماشعرت بأي خوف منه حينها ووجدت نفسي كأني أؤدي واجبا تجاهه وكأنه أحد أرحامي..
نعم أدخلناه معاً في كيس الصمون الزيتوني اللون أمسكته من كتفيه.. نهضته وسألت رحيم وقلبي يكاد يتوقف من الفزع عليه:
“وين راح تودوه؟”
أجابها ضاحكاً شامتا:”خطيه السمج جوعان.. راح نسويله عزيمة”..
صعقت بتول وذهلت من إجابته.. فهاهي كرامة الإنسان العراقي التي جاء البعث عازماً على إذلالها.. وهاهي المناصب الإدارية العليا تسحق بالأقدام لأنها قد عارضت الفرعون..حاضر ومستقبل ينتهي بلحظات دون أي مبالاة ودون أن تهتز لهم شعرة كما يعبر عنه كبيرهم.. قاضٍ يموت من التعذيب، ولم يحظَ بمتر مربع واحد من أرض الرافدين لإيواء جثمانه!!
بل يلقى إلى أسماك دجلة، ويستكثرون عليه مراسم الغسل والتكفين التي بها ينعم أراذل الناس كرامة لجنس الإنسان.
حدث هذا في تشرين الثاني 1981م قبل اعتقالي، وبتول لم تحدثنا به إلا بعد مدة.. فقد هددها الحارس رحيم بأنه سيؤذيها إن تحدثت بهذا الأمر .. ويبدو أنه قد تطوع للتخلص من جثة الضحية، وأراد من يساعده، ولم يطلب من الحراس الآخرين ذلك، ربما لأنه أراد أن يتباهى أمامهم بأنه قادر على الإنجاز وذو قدرات متميزة، فهم يتملقون ويظهرون فاعليتهم كي يتسلقوا في المناصب القمعية.
أما بتول فعلامات الخوف والوجل لم تفارق محياها الجميل، وكانت ترتجف عندما يمعنون في تعذيب أحد المعتقلين ، وحين يسكت صراخه.. تقول على الفور وهي بحالة هستيرية: “مات.. مات .. كتلوه!”.