قراءة في وصية ضحية
بقلم: د. عباس القريشي
يمكن تعريف وصيّة الضحية بأنَّها وثيقة يكتبها الشخص الذي يستشعر قرب انتهاء حياته؛ وهو في حالة انتظار الموت، وتتضمن عادة على توجيهات وتعليمات تتعلق بتوزيع الممتلكات أو حتى الرسائل الشخصية أو أولاده أو والديه بعد وفاته.
وقراءة وصية الضحية ليس أمراً سهلاً؛ لما تتضمنه من مسائل قانونية وعواطف شخصية، يمكنها أن تثير أسئلة تتعلق بالعدالة والأخلاق والقيم الإنسانية والعلاقات العائلية، مما يجعلها تجربة معقدة لقارئها.
فبعد قراءة وصية الضحية، يمكن أن تنشأ مشاعر متناقضة بين ذوي الضحية؛ فبعض الناس قد يشعرون بالارتياح؛ لأنهم أصبحوا يعرفون ما يجب عليهم فعله، في حين قد تثير الوصية استياء آخرين.
إذن القراءة في وصية ضحية ليست مجرد مطالعة، بل اطلاع على تجربة شخصية وعاطفية تتطلب فهمًا وتواصلاً جيدًا لتُنقل المعاني والمضامين بدقة إلى الأفراد المعنيين، ومهم أن يتم التعامل معها بحساسية واحترام تجاه الحقائق والمشاعر والرغبات التي أراد إيصالها الضحية إلى الأشخاص المعنيين ولاسيما إذا أخذنا بنظر المراعاة أن الكاتب يستشعر الموت والرحيل عن هذه الدنيا.
ومن هنا تأتي أهمية قراءة وصايا ضحايا إجرام نظام البعث وأجهزته القمعية؛ لكونها أدلة شبه رسمية تركها أصحابها ليحكوا لنا حقائق ومشاعر ومعتقدات وأفكارا.
ولأهمية ما تقدم نتصفح في هذه السطور وصية شابة عراقية تدعى (عواطف) كتبتها إلى أمها، بعدما اعتقلت مع وزوجها، ولم يمضِ على زواجها سوى شهور قلائل، وهي بحملها الأول، وأكيدا كانت تُهمتها الانتماء إلى حزب الدعوة، كما جرت سيرة نظام البعث في اعتقال الملتزمين دينياً.
عانت (عواطف) كثيرا تحت سياط الجلّادين، ولما اشتدَّ التعذيب عليها وهدد جنينها بالقتل جراء الأساليب الوحشية البعثية اعترفت وتحملت جميع التهم الموجهة إليها مع أنَّها لم ترتكب أيا منها، وضحت بحياتها لإنقاذ حملها، ولما شعرت بدنو أجلها وقرب تنفيذ حكم الإعدام كتبت إلى أمها قائلة:- “أُمي الحَبيبة تحية لكِ من صميم قلبي الملهوف لوجهكِ الكريم، ليعلم الله كم أنا مشتاقة لكم، وأسأل الباري أن يرعاكم ويحفظكم برعايته” ابتدأت وصيتها بـكلمات توجع كلّ قلب يستشعر معنى الأم، وأهميتها؛ فكتبت أُمي واصفة لها بالحبيبة؛ لتؤكد مشاعرها اتجاه ابنتها التي ستوصي بها ، ثم تُحييها بتحايا قلبٍ متلهفٍ لرؤية ذلك الوجه، ومع صدق كلماتها تُقسم بالله لتُفصح عن مدى اشتياقها لأمها وأهلها ..أعقبت ذلك بكلمات إنسان متيقن بوجود إله يرعى خلقه ويحفظه.
ثم أردفت ذلك بقولها: “أُمي العزيزة” وهي تستلذ بهذه المفردة “لقد تبيَّن من المحكمة أن مصيري هو الإعدام“، يبدو أنَّ الضحية (عواطف) كان لديها أمل في الإفراج عنها؛ لكونها حاملا، ولديها طفلة ولكن الأمل انقطع بعد إبلاغها بموعد تنفيذ حكم الإعدام ، فقررت أن تخبر أمها بمصيرها أولاً، ولا أدري كيف تلقت أمها الكارثة بعد قراءتها خبر إعدام ابنتها (عواطف) في الوصية، وثانيا أن تزف لها خبر ولادتها لابنتها دعاء داخل السجن لتعطيها أمل الحياة فتقول: “وإنّي ولدتُ طفلة سميتُها ”دُعاء“” والمُسمَّى عادة ما يظهر المعنى في نفس المُسمِّي، وهنا يبدو أن (عواطف) كانت تكثر من الدعاء، ولها ارتباط مع الله عبر دعائها “فبعد أن عرفت مصيري انشغلتُ كثيرًا [بالدعاء][1]، وأتساءل إلى مَن أُسلم هذه الطفلة“، وحروفها قاصرة عن بيان حالها سوى أنَّها انشغلت عن نفسها وإعدامها وأخذت تفكرُ بمستقبل طفلتها وأي يدٍ تكون أمينة عليها فتقرر إخبار والدتها بأنَّ أفضل حاضنة لها هي تلك المرأة التي احتضنتها أولاً لما لمسته من حنان ودفءٍ وطيب قلب فتقول: “فأول ما طرق أذهاني هو حضنك يا حبيبتي يا أُمي وقلبكِ الطّيب، ونِعم القلب وخير المُربية” فتترجى والدتها بأن تحتضن طفلتها لتصنع منها إنسانة رائعة وتنمي فيها الفضائل والقيم الأخلاقية السامية وتعمل على إعدادها لتكون زوجة صالحة تعمل على إسعاد زوجتها، وتتمكن من إنشاء أسرة صالحة، وأن ترعاها كأنما هي (عواطف)؛ لتقرب لها أنَّ وجود الإنسان بعقبه وذريته فتقول: “فأرجو أن تحتضنيها وليس فقط في الملبس أو المأكل وإنما بحُسن الأخلاق والتربية الصالحة، وأسأل الله أن يسهل تربيتها ويجعلها وكأنما هي عواطف التي ربتها، وأن تُصبح زوجة صالحة في المُستقبل” ونظرا لعاطفتها الجياشة تجاه ابنتها تؤكد أنَّ ابنتها أمانة عندها بقولها: “فهي يا والدتي ذمة في عنقك، وإن شاء الله تطمئنَ عيني وتستقر حين ودعتها عند خير حبيبة” وتختم وصيتها بسلامها إلى أبيها وإخوتها “سلامي إلى أبي وصباح وزَينَب وأثير” ثم تكتب اسمها “عواطف” ليكون آخر ما خطته بما يُحمل من معنى “عواطف“، ويبقى مئات الآلاف من مجرمي نظام البعث وجلاوزته ينعمون بالحرية والأمان دون محاسبة حقيقية، ومن دون تحقيق عدالة انتقالية تنصف المظلومين من الظالمين.
[1] هذه الإضافة من عندي؛ لأن مكتوب في الوصية انشغلت كثيرا، ولم يكتب بماذا انشغلت كثيرا، ولهذا أضفت كلمة بالدعاء…