السخرة والعمل القسري في زمن البعث
ا.د. حسين الزيادي
ما ترك نظام البعث موبقة إلا ارتكبها، ولا جرماً إلا اقترفه، ولا فاحشة إلا مارسها، ولا إثماً إلا اكتسبه، ولم يترك عهداً، و لا ذِمَّة، ولا قانوناً، ولا حقاً، ولا ميثاقاً إلا خالفه وتعداه، ومن الأحداث التي مازالت خصبة في ذاكرة العراقيين هي أعمال السخرة التي كان يقوم بها النظام وأجهزته القمعية، وكانت أغلبها تتمثل بعمل السواتر، وشق الخنادق، وترصين الدفاعات أو نقل الطلبة والموظفين لأماكن الاحتجاجات القسرية أو لنقل الجنود لجبهات القتال؛ لذلك كان النظام بحاجة دائمة لمركبات الحمل الكبيرة، فكانت مفارز الحزب تنصب السيطرات وتحتجز المركبات للعمل لديها عدة أيام بلا مقابل أو أجر، وتكرر الأمر حتى أصبح عرفاً وتقليداً مستمراً فكان أصحاب المركبات يمتنعون عن العمل خلال أيام (السخرة) كما يسمونها، وأصبحت هنالك جداول دورية بأرقام المركبات التي تساق أُسبوعياً في ثمانينيات القرن الماضي إلى جبهات القتال، وبعضها قد تتعرض للتدمير ولا يُعطى أي تعويض لمالكيها، واستمر الحال حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي، وإزاء هذا الأمر ترك الكثير من مالكي المركبات مهنتهم، ولم يقتصر الأمر على ذلك ففي بعض الأحيان يتم أجبار المواطنين المدنيين على العمل قسراً وبلا مقابل، ولاشك أنَّ هذا يدخل ضمن مفهوم الاسترقاق أو الاستعباد.
إنَّ ما قام به نظام البعث يعدّ مخالفةً صريحة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعراق من أوائل الموقعين على بنود هذا الإعلان الذي نص في مواده (3-21) على: الحق في عدم الرق والعبودية والسخرة، كما نص الإعلان في المادة الرابعة على أنه :لا يجوز استرقاق أو استعباد أحد، فلا بد من القضاء على العبودية بكافة أشكالها، وفضلاً عن ذلك تتعارض أفعال النظام والاتفاقية (29) الخاصة بالسخرة التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الرابعة عشرة، في حزيران 1930م، والتي تنص صراحة في المادة الرابعة: لا يجوز للسلطات أن تفرض أو تسمح بفرض عمل السخرة أو العمل القسري لمنفعة أفراد أو شركات أو جمعيات خاصة، وفي دورته الأربعين دعا مكتب العمل الدولي في جنيف، يوم 5 حزيران 1957م، ونظر في موضوع السخرة، الذي شكل البند الرابع من جدول أعمال دورته، وقد أحاط علما بأحكام اتفاقية السخرة لعام 1930م، وضمن في المادة (1) قوله: يتعهد كل عضو في منظمة العمل الدولية يصدق هذه الاتفاقية بحظر أي شكل من أشكال عمل السخرة أو العمل القسري، وبعدم اللجوء إليه كأسلوب لحشد اليد العاملة واستخدامها، ومن جملة الاتفاقيات التي خالفها النظام نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- الاتفاقية الخاصة بالرق سنة 1926م والبروتوكول المعدل للاتفاقية الصادر عام 1953م.
- اتفاقية العمل الدولية رقم (29) الخاصة بالسخرة والعمل الإجباري لعام 1930م.
- الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرق لعام 1956م وقد وقع العراق على اتفاقيات جنيف 1956م، وقد صوت العراق لجميع الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية ماعدا اتفاقية حرية تكوين الجمعيات(الاتفاقية رقم 87).
- الاتفاقية الدولية رقم (105) الخاصة بتحريم عمل السخرة لعام 1957م، والمصادق عليها من قبل دولة العراق بالقانونين المرقمين (85 و87) لسنة 1958م والمنشورين في جريدة الوقائع العراقية في العدد 4454 بتاريخ 1-1- 1959م.
أما الدساتير العراقية، فقد نصت بأجمعها على ضرورة احترام الملكية ومنع السخرة والعمل القسري، فهذا دستور 1925م في المادة العاشرة ينص على أنَّ: حقوق التملك مصونة فلا يجوز فرض القيود الإجبارية ولا حجز الأموال والاملاك، أما السخرة المجانية فممنوعة تماماً، أما دستور 1958م المؤقت، فنص في المادة الثالثة عشرة على أنَّ: الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية ولا ينزع إلا للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل وفقا للقانون، وإلى ذلك ذهب دستور 1968م المؤقت ودستور 1970م المؤقت.
أما من الناحية الشرعية فالحق في الملكية: من الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان ومنع التجاوز عليها لأي سبب بشرط عدم التعسف في استعمال الحق أو الإضرار بالآخرين، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان في أعلى مراتب الحياة وفضله على سائر الكائنات الأخرى، ولذلك جاءت الشريعة الإسلامية لتؤكد أهمية المبادئ الإنسانية المتمثلة بالعدل والمساواة واحترام الآخر، قال تعالى في كتابه الكريم (ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا) (الإسراء:70).
أما قانون العمل العراقي رقم (71) لسنة 1987م المعمول به سابقاً فقد نص في المادة 48 على التزام صاحب العمل بدفع أجر العامل في حالة انتهاء خدمته، وخلال سبعة أيام من تاريخ انتهائها، وقد عرف القانون المادة 29 عقد العمل هو اتفاق بين العامل وصاحب العمل، يلتزم فيه العامل بأداء عمل معين لصاحب العمل تبعا لتوجيهه وإدارته ويلتزم فيه صاحب العمل بأداء الأجر المتفق عليه للعامل، ونصت المادة 30 من القانون على أنْ يكون عقد العمل مكتوبا، ويحدد فيه نوع العمل ومقدار الأجر، وفي حالة عدم كتابة العقد، فللعامل أن يثبت العقد والحقوق الناشئة عنه بجميع طرق الإثبات.
والمشرع العراقي في قانون العمل رقم 37 لسنة 2015م، أكد بشكل استثنائي على فقرة العمل الجبري بغية مغادرة هذا الانتهاك وتجريمه فقد أكدت المادة الأولى تاسعا من قانون العمل رقم 37 لسنة 2015م على أهمية عقد العمل بوصفه اتفاقاً سواء كان صريحا أم ضمنيا، شفويا أم تحريريا بين العامل وصاحب العمل لقاء أجر أيا كان نوعه، وأكد القانون نفسه في الفصل الثالث -المادة التاسعة /أولاً: يحظر هذا القانون العمل الجبري أو الالزامي بكافة أشكاله، منها: أ – العمل بالرق أو المديونية. ب – العمل بالقيود المربوط بها الاشخاص.