كنت هناك..
الشيخ محمد الحميداوي
ما زلت أذكُر تلك العشية الدموية ففيها لم أخرج إلى صلاة العشائين في الصحن العلوي المطهر، بل بقيت بمعية مجموعة من الطلبة في مدرستنا (مدرسة السيد اليزدي- قد-) وبعد أن أنهى كل واحد منا صلاته، توزعنا في باحة المدرسة بين محدثِ صاحبه، وآخر يجهز مقدمات عشائه وثالث واقف قبال باب غرفته ورابع وخامس…الخ.
حدث أن سمعنا صوتَا يشبه صوت إطلاق النار فخيَّم السكون على المدرسة، أذكر أني قطعت ذلك السكون بالقول (طكًت الكهرباء!) أو قريبًا من ذلك، ثم تكرر الصوت مرة أُخرى فقال أحد المشايخ بما يشبه السخرية: (لا، لا، طكًت الكهرباء)!
بعد لحظات جاءنا صديقنا الشيخ محمد السعدي مسرعًا في مشيته على غير عادته، فقلت له: (ها خويه ؟) فضرب عمامته بيده وقال (قتلوا البروجردي)!
نزل الخبر علينا كالصاعقة وتساءلنا بمن ؟ وكيف؟ وأين ؟ فكان جوابه في بداية فرع مدرستنا وجثته لاتزال هناك!
تراكضنا نحو الشارع فكنت أول الطلبة وصولًا فرأيتُ الشيخ البروجردي – قد- مكبوبًا على وجهه وعمامته ملقاة على الأرض، وقلبته أنا وطالب آخر فوجدناه – رحمه الله- جثة هامدة قد علت وجهه الصبيح زرقة شديدة.
حاولنا أن نقنع أنفسنا أنَّ الشيخ لم يفارق الحياة فتعاونا على حمله إلى أقرب مستشفى فناداني بعض الطلبة وكان سيَّدا علويًّا، وهو أكبر طلاب المدرسة سنًّا وأشدهم بساطة: (شيخ محمد، عوفوه، خليه على الأرض!) لم استوعب كلماته في حينها لكن فهمت لاحقًا أنَه أراد من كلماته تعظيم الفاجعة لعل عذابًا ينزل على الطغمة البعثية الحاكمة!
لم اُعر كلماته أُذنًا صاغية، بل حملنا جثة الشيخ – رحمه الله- نريد بها أقرب سيارة حتى لقد صبغ دمه (دشداشتي).
كنا ننادي على سيارة، ولكن لا نعرف من ننادي، والناس مذهولون مما يرونه فقلت بصوت عالٍ وبصورة لا شعورية: (أهل النجف تعالوا هذا الشيخ البروجردي، سيارة، سيارة) أو كلمات من هذا القبيل.
حاول الناس الاقتراب منا على وجل شديد وشكلوا ما يشبه الدائرة حولنا وساعدنا بعضهم في حمل جثة الشيخ – قد- وهناك من يسأل من قتله ؟ فقال ذلك السيد: (معلوم من قتله!) فطرح أحدهم الجثة وامسك بخناق السيد، وقال: (تعال، هذا يعرف القاتل) وبسرعة سأله: من هو ؟ فأجابه السيد – رحمه الله-: (يعني ما تعرفه؟) وكان يقصد النظام البعثي.
حدث كل ذلك في مقطع زمني قصير وعلى رقعة جغرافية صغيرة، وبسرعة خاطفة خرج إلينا أناس لم نكن نعهد وجودهم من قبل ولا أعرف حتى الساعة وعلى وجه الدقة من أين خرجوا لكن بدا لي أُنهم كانوا موزعين في منطقة الحادث قرب المحلات التجارية التي كانت تحيط بالمنطقة وإنهم كانوا مسبوقين بما سيحصل وانَّ ذلك السائل عن القاتل كان منهم، ففرقوا الناس ثم جاءت سيارة دفع رباعي فوضعوا جثة الشيخ البروجردي فيها وانطلقوا من دون أن يسألوا عن تفاصيل الحادث أو يستجوبوا أحدًا ولا حتى أن يسألوا عن القتيل!
عدنا إلى المدرسة بالكاد تحملنا أقدامنا ثم دخلنا في دوامة التكهن والتحليلات فقال ذلك السيد: (لو واحد هاتف على الجثة، نعرف القاتل!).
بعد مدَّة طويلة نسبيًّا توزعنا على غرفنا وسط صمت الشارع وسكون حركة الناس.
أُذكر أنَّني كنت جالسَا في غرفة زميل لي مطلة على الشارع بحيث يمكن للجالس فيها أن يسمع كثيرًا وأن يرى قليلَا فسمعت وقع أقدام بالقرب من مدرستنا، عرفت بعدها أنَّ المرجع السيد علي السيستاني- دام ظله- واحد أولاده قد جاؤوا إلى بيت المرحوم البروجردي القريب من مدرستنا.
توافد الطلبة في اليوم التالي من كل فج عميق لحضور مراسيم التشييع رغم عدم وجود أي نوع من وسائل التواصل باستثناء الهاتف الأرضي الذي كان يقتنيه القليل من الناس، ولما نقلنا لبعض أساتذتنا طبيعة الحضور وتنوعه، علَّق قائلًا: لعل هذا يبعث برسالة إلى المعنيين أنَّ الطلبة ليسوا مع جهة على حساب أخرى.