جزءٌ من حكاية..
-كوثر العزاوي-
من القصص الواقعية في زمن البعث المجرم زمن الظلام لا السلام..
“رباب” ذات السبعة عشر ربيعًا، وبعد
مرور خمسة عشر يومًا فقط على زواجها، بعد عودة زوجها من وحدته العسكرية في محافظة الديوانية إلى بغداد عند الساعة السابعة بعد صلاة العشاءين، كانت والدته مع عروس ابنها قد أعدّت وجبة العشاء، وقد أفردت لهما وجبة ليأكلا معًا، جلسا وحدهما، وقبل تناول الطعام ، أطال النظر إليها، وبابتسامة حنون قال: بسم الله، مدّت يدها وقبل أن ترفعها سبقها في تناول أول لقمة ليضعها في فمها، ومع أول لقمة وقبل مضغها، طُرق الباب وكان في العادة في مثل هذا الوقت يأتي بعض الضيوف للتهنئة بمناسبة زواجهما، نظر إليها مازحاً, وقال: لا عليكِ لنكمل عشاءنا، هناك من يستقبل الضيوف لحين الانتهاء من العشاء ويقصد إخوته، وماهي إلّا دقائق وإذا بأخيه الأصغر يشير اليه “محمد محمد يردوك على الباب” لم يتفاجأ ولكن رمق عروسه مبتسمًا كعادته: “انتظريني لا تأكلي سأعود، أتمنى أن نكمل عشاءنا معًا” أرخت عينيها وهزّت رأسها مبتسمة: سأنتظرك، والغريب أنّها بقيت جالسة في مكانها كطفلة ترسل نظراتها نحوه على أمل الرجوع لها ليستأنفا عشاءهما، وقبل الخروج من باب الغرفة أدار برأسه ثانية مبتسمًا متوازنًا قائلًا لها: “ماكو شي لا تقلقي” لم تنبس بكلمة، فقط أشارت له بعينيها وشيء من قلق اكتنفها فجأة.. توارى خلف الباب غطّت وجهها بكِلتا يديها، ترى هل شعر باعتصار قلبها المفاجئ ليديرَ بوجهه نحوها ثانية كي يوَدِّعها بآخر نظرة حبٍّ ممزوجةٍ بابتسامة تخفي خلْفها حكاية فَقْدٍ ووداع في أول اللقاء! بالفعل هكذا جرى القدر فقد كانت تلك النظرات هي آخر ما بينهما، فقد كانت لحظات حملت معها ألف آه، لكنها أسست لسنوات من صبر، وعُمرٍ بعثرتهُ رياح الأيام الصفراء ما بين مدّ وجزر، لتؤكد “لرباب” حقيقة، أنّ مشوار حياتك للتوّ بدأ، ولكن ليست أيّة حياة، إنها حياة بلا أحياء، حياة الفقد والصبر، حياة استيحاش وغربة، وغربة المبادئ أشدّ وأقسى، حياةٌ بمحطات عدّة، يكمن بين طياتها الحيرة والحسرة، وكثير من بَذلٍ وعطاء، ثم انتبهت، ويبدو في لحظة سرَحَت في خيال رأت خلاله ما ينتظرها من مستقبل في بضع دقائقَ من صمت، ولمّا أحسّت بهمهماتٍ وهمس من كلام نهضت من مكانها، فلم يعد ثمّة جدوى من المكوث كما أراد لها، فالمَكين قد رحل! نظرت إلى أفراد عائلة قرينها مستفسِرة، مَن أولئك الذين طلبوا حضوره، وإلى أين ذهب محمد؟! وبعد دقيقة صمتٍ قال أحد إخوته، كالعادة يا أختاه أرى أن لا جدوى من الانتظار فلطالما غادر عالَمنا شبابٌ بذات الأسلوب الذي جرى معنا هذه الليلة، أعادت سؤالها بذهول، ما تعني في كلامك؟ صارحوني ماذا جرى! هل تعني أنّ محمد لن يعود الليلة؟! أجابها والأسى في نبرته يفصحُ عن الجواب، نعم تصبّري أختاه لعله يعود، ولكن ليست الليلة ولا ما بعدها من الليالي، فمن جاءه ليس بصديق، إنه أحد افراد دوائر الأمن ومعه واحد ممن يسمونهم بالرفاق الحزبيين، فماذا عسانا نفهم! وتلك ظاهرة إعتادها الأغلبية من الشعب العراقي في ضمن حملة مداهمات واعتقالات منذ أشهر خلال هذا العام -١٩٨٠- وإنّ العشر دقائق التي يخدعوننا بها تعني اللا رجعة إلّا ما شاء الله!! هنا فهِمت “رباب” مغزى الكلام وما وراءه لكنها لم تبرح مكانها، ولم تدخل غرفتها، أخذت مقعدها في جانب من أريكة هناك، وقد ساد الهدوء أرجاء البيت، كانت لحظات عصيبة من عمر المحبة النقية القصيرة، تعلّمَت فيها “رباب” كيف تُذرف الحرة الدمعة صمتًا من قلب يحترق حبًا لهدفٍ وليدٍ وُئِدَ في مهده، لكنه بحجم الأعوام التي سبقته انتظارًا وستلحَقهُ أعوامٌ وأعوام حبًا وصبرًا وانتظاراً، بل سيطول الوقوف على ضفاف أطياف مَن غادروا مخلصين، فقصة “رباب ومحمد” لم تكن الأولى آنذاك ولم تكن الأخيرة.. والتَحقَ “محمد” كما المئات من الشباب بقافلة المغيَّبين، وغابت معه أسراره، وإلى يومنا هذا بقيَ مجهول القبر والأثر ليبقى بعده أهله وأحبّتهُ على أملٍ وحنين، كما بقيت “رباب” تتلقى نبأً اعتقال إخوتها الثلاث واحدًا تلو الآخر، وكلّ نبأٍ بمثابة استئصال قطعة من فؤادها، ليصل الدور إلى اعتقال أخوة زوجها لتُثكَلَ الأم بأولادها الثلاث كما أمّ “رباب” هي الأخرى قدّمت خمسًا من الشباب وكل أولئك بلا أثر ولا قبر {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} القصص١٠- وتمضي الأيام والأعوام بثقل الرواسي وجدب القفار، وثمة دوامة مازالت تعصف ببقايا روح رباب فتطوي مسافات الانتظار بترنيمة دعاء، ودمعة في الاسحار، فالهدف الذي من أجله تنتظر، هو عزاؤها بل أحبّ إلى قلبها من الدماء والشهداء، حملت بقايا روحها وعضّت بالنواجذ على جراحها، فقد كانت على الرغم وحدتها ترى البُعد الآخر للشهادة كما تربّت على ذلك النهج، وهو أنّ الجميع سيما عوائل الشهداء، بأنهم مكلّفون بحماية دماء الشهداء من خلال حماية الهدف العظيم الذي سعى إليه الشهداء، وأرخصوا له أعمارهم، وبذلوا أغلى ما عندهم، ولم يَعرفوا الهزيمة والاستسلام للظالم وكانوا يموتون ألف مرة تحت سنابك آلات التعذيب الوحشية قبل أن يعرجوا شهداء في سبيل الله تعالى!، وبتلك الهمّة والمعنوية، واصلت “رباب” طريقها من قبل وحتى بعد أن طالتها يدُ الرعب الصداميّ لتنتزعها من بين يدَي والدَيها هي الأُخرى في ضحى يومٍ غائم، وذلك بعد سنتين من فقدها زوجها وإخوتها، لتلتحق هي الأُخرى بقافلة الحرائر اللواتي سبَقنها في طريق التضحية ما بين شهيدة وسجينة، لِيعلمَ أهل الدنيا كيف تنتصر اللهفة وكيف تصمد الهمّة أمام المغريات، وكيف تُخْلِصُ الأرواح راجية، وتتَّحد على حبّ نهج آل محمد “عليهم السلام” قادة الأمم وسادة الوجود حتى لو كان الثمن النفوس، ومرّت العشرات من السنين ومازالت ثمة أمنية تبقى إلى اللحد، “أن تُطوى مسافات الغيب وتلتقي الأرواح تحت ظل فسطاط قائم آل محمد “عليهم السلام” يوم الرجعة يوم الفتح، “وَإنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرين”.