banarlogo

تبعيث الجامعات

تبعيث الجامعات

 

الكاتب علي صويح

 

منذ استيلاء حزب البعث البائد على السلطة في العراق سعى وبشكل ممنهج ومنظم لتخريب الحياة بكافة أشكالها، وبما أنَّ حكم البعث كان حكما شموليا فقد قام بفرض ثقافة الحزب الواحد كون البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع في العراق، وبناءً على هذا التوصيف سخَّر البعث كافة إمكانيات الدولة لنشر هذه الثقافة من خلال تمجيد صورة القائد الأوحد ونعته بكافة الصفات التي تمجده، من هنا انطلقت الآلة الإعلامية والدعائية لتنفيذ سياسة التبعيث الإجباري لذا كان لزاما على العراقيين أن يستمعوا لخطب، ولقاءات، ووصايا القائد في البيت، والمدرسة، والجامعة والمستشفى، والمعسكر، والشارع، إلا أن أخطر مفصل من هذه المفاصل كانت الجامعة فحاول النظام وبالأساليب كافة السيطرة على هذه الصروح العلمية من خلال الترويج لثقافته وأفكاره.

فكانت آليات نظام البعث في تبعيث الجامعات تبدأ في المرحلة الأولى ولا تنتهي بالتخرج، على سبيل المثال: مَنح الطلاب البعثيين افضلية في التنافس على المقاعد الجامعية بإضافة عشر درجات أو خمس تبعاً لوصف المتقدم كعضو اتحاد سابق، أحد أبناء أصدقاء الرئيس، وغيرها لينافس باقي المتقدمين على المقعد الجامعي، فضلاً عن القبول الخاص لعناصر الحزب والأجهزة القمعية بغض النظر عن المعدل، وتدريس مادة الثقافة القومية التي تمثل أيديولوجية البعث في إدارة الدولة والحزب، كذلك الاحتفالات الجامعية بالمناسبات الحزبية، وتسمية دفعات التخرج بشعارات صدام كدفعة العبور وغيرها، وإنشاء تنظيم البعث الطلابيّ الذي خصص لطلبة الجامعات، وإقامة المهرجانات الشعرية التي تمجد النظام وحزبه، وعنوانات الأطاريح التي تخدم ماكنة البعث وتفرغ الطلاب البعثيين من دون احتساب ساعات غيابهم، فضلاً عن انتخاب العناصر البعثية من الطلبة للتعيين في المواقع الحساسة.

وبالتأكيد ومن خلال تلك الممارسات وغيرها وباعتماد اسلوب الترغيب والترهيب فقد استطاع البعث من إيجاد أرضية مكنته من التغلغل إلى عقول مجموعة من المنتفعين والانتهازيين والوصولين وبدأ بتسخيرهم لتجميل وتلميع صورة النظام وطرح ما سمي فيما بعد بنظرية القائد الضرورة. هذه العملية خلفت لنا فيما بعد إرثا متراكما ومجموعة من الأكاديميين الذين حصلوا على اللقب العلمي الرفيع من دون وجه حق وبلا استحقاق حقيقي ومن دون أن يخضع لأي معايير ومقاييس علمية رصينة، فبمجرد دراسة موضوع يتحدث عن فكر القائد الضرورة، فإن صاحب المشروع كان يحصل على أعلى العلامات وأغلى الألقاب فهدا الحديث لا يمكن الطعن به ولا يستطيع أحد أنْ يعدل عليه لذا فرسالة ماجستير، مثلاً حملت عنوان (ترجمة التعابير البلاغية في أحاديث السيد الرئيس) حصلت على أعلى درجات التقييم لأنَّ صاحب الرسالة ترجم المقولة المأثورة للقائد الضرورة (شوكت تهتز الشوارب) إلى اللغة الانجليزية.

ولم يقتصر الأمر على القائد الضرورة وحزبه، بل تعداه إلى أفراد العائلة وما حولها من حاشية، لذا لم تجد باحثة عنوانا أفضل من عنوان (الفكر القيادي للأُستاذ عدي صدام حسين) لتعنون به رسالتها لنيل شهادة الماجستير، وطبعا ابتدأ البحث بالحديث عن أصل الأُستاذ ثم بتعداد مناقبه وصولا إلى تعداد الكم الهائل من الشهادات والألقاب العلمية التي حصل عليها.

لذا وانطلاقا من حظر الدستور العراقي لفكر البعث وفقا للمادة ٧ وكذلك استنادا إلى القوانين المرعية كقانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم ١٠ لسنة ٢٠٠٨م يجب أنْ يتم التخلص من العفن والترهات التي خلفها البعث من خلال سحب كل الكتب، والكراسات، والمؤلفات، ورسائل الماجستير، وأطروحات الدكتوراه، والدوريات، التي تروج لواحدة من أسوأ المراحل التي مر بها بلدنا العزيز في التأريخ الحديث والتي تهافت مجموعة من الكتاب العراقيين والعرب في الكتابة عنها طمعاً في مكارم القائد وتزيفا للتأريخ وقفزا على الحقائق التي لا تخفى على كل ذي لب.

وعلى الجهات ذات العلاقة أن تعمل على إيجاد ثقافة بديلة تحل محل الثقافة السائدة إبان حكم النظام البائد والمرتكزة على سياسة تبعيث كل جوانب الحياة التربوية، والثقافية، والاجتماعية، وحتى العلمية منها وصولاً إلى الغاء الرأي الآخر.

لهذا يكون لزاما على الجهات المعنية (مؤسسات العدالة الانتقالية) التخلص من الإشارات المباشرة وغير المباشرة للنظام البائد في المناهج الدراسية، حيث إن تبعيث المنهج الدراسي وفقا لما كان معمولا به في حقبة النظام البائد، وكانت تسعى لرسم ملامح سلوكية معينة تتماشى مع سياسة الحزب الأوحد والفكر الشمولي المبني أساسا على تغييب الآخر.

إن مؤسسات العدالة الانتقالية ينبغي أنْ تعمل على التخلص من التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد وذلك من خلال ايجاد ثقافة بديلة عن الثقافة التي كانت سائدة في زمن البعث البائد تقوم على أساس قبول الآخر والتركيز على التعددية السياسية ونبذ ثقافة العنف وجعل المؤسسات التربوية والجامعات بعيدة عن الصراعات السياسية وجعلها ساحات للتنافس العلمي من أجل خلق جيل واعد قادر على القيام بمهام بناء العراق.