banarlogo

مراجعة لكتاب عمليات الإبادة الجماعية للشيعة في العالم

مراجعة لكتاب عمليات الإبادة الجماعية للشيعة في العالم

 

د. قيس ناصر

 

عمليات الإبادة الجماعية للشيعة في العالم كتابٌ صدر عن المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، التابع إلى قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، وهو من تأليف الباحثة أمل الحكيم، ويأتي الكتاب للتعبير عن حقيقة مفادها إن عمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون الشيعة تحمل رسالة في مضمونها أنّه ليس أمامهم سوى التخلي عن عقيدتهم، وإلا سيكون مصيرهم القتل.

إنّ جرائم الإبادة الجماعية بصورة عامة لم تكُن مشخصة بشكل دقيق حتى أربعينيات القرن العشرين، إذ كانت جرائم لا اسم لها إلى أنّ عبر عنها المفكر البولندي (رفائيل لمكين) بالإبادة الجماعية في سنة 1944م، وكان يقصد بها قتل جماعة ما في منطقة ما، من أجل القضاء عليهم نهائياً، وبتعبير آخر تدمير المقومات الأساسية لحياة مجتمع ما وفق قول (جون دوكر) في كتابه أصول العنف، وينبغي في هكذا نوع من الدراسات تشخيص الجماعة التي تعرضت للإبادة، وهذا الأمر ضروري جداً ومن دونه لا تكتمل الدراسة، وعلى وفق هذا السياق اشتغلت الدراسة موضع المراجعة (عمليات الإبادة الجماعية للشيعة في العالم). ومن الجدير بالذكر أنَّ الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد اعتمدت نص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في التاسع من كانون الأول 1948م، وبدأ سريانها في كانون الثاني 1951م، وقد انضم العراق إلى هذه الاتفاقية سنة 1959م.

يلحظُ القارئ أنَّ الكتاب يحمل مضمونين، الأول انساني، والثاني علمي، وكان المضمون الانساني متضامناً مع ضحايا الإبادات ونظَّرَ لضرورة تحقيق الأمان في الحاضر والمستقبل لجماعة طالما عانت من جرائم الاضطهاد والقمع والتهميش، وتوصيف المضمون بالإنساني لأنه دعا إلى انصاف الضحايا، ومنع تكرار الجرائم، وعدم إثارة الحقد والدعوة إلى الانتقام والعنف، وعلى وفق هذا المضمون، ارتكز الكتاب إلى أربع منطلقات، يمكن اختصارها بالآتي:

  • جرائم التاريخ إنْ لم يتم توثيقها وفهمها، فإنّها ستتكرر، ويمكن التعبير عن هذه الحقيقة بالقول (الاستذكار يمنع التكرار).
  • ضرورة توثيق الجرائم التي تعرض لها الشيعة في العالم.
  • انصاف الضحايا من خلال كشف الجرائم التي ارتكبت بحقهم.
  • إنّ توثيق ودراسة تلك الجرائم يساهم بتحقيق الاعتراف العالمي بالحقوق الانسانية التي انتهكت، والجرائم التي أُرتكبت ضد الشيعة أيضاً.

أما عن المضمون العلمي للكتاب، فقد توزعّت موضوعاته على أربعة فصول بمباحث عدّة، إذ ناقشت الباحثة في فصله الأول المدخل المفاهيمي لـ: الإبادة الجماعية في اللغة والاصطلاح، والشيعة من حيث النشأة والمعتقد بشكل مختصر، فضلاً عن التعريف بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والقمع والعنصرية، والإرهاب، والتكفير، وهذا المدخل ضروري لهذا النوع من الدراسات، وفي سياق الحديث عن حقوق الإنسان تم دراسة حق الحياة، وحرية العقيدة، وحق إقامة الشعائر، وهذه الحقوق الثلاثة مرتبطة بشكل رئيس بالانتهاكات والجرائم التي أُرتكبت بحق الشيعة، بمعنى آخر إنّ الباحثة قد ركّزت على الحقوق التي لها صلة بموضوع كتابها، لأن الحديث عن جميع الحقوق يحتاج دراسات عدة.

لم تقتصر مؤلفة الكتاب على دراسة عمليات الإبادات الجماعية التي أرتكبت بحق الشيعة، إنما أشارت إلى الإبادات التي أُرتكبت بحق شعوب وجماعات مختلفة في العالم من دون الاقتصار على أتباع دين أو قومية أو مذهب، في إشارة إلى أنّ جميع الإبادات التي ذُكرت أو التي لم يذكرها الكتاب بحاجة إلى دراسات منفصلة وخاصة، ويظهر من سياق الجرائم التي ارتكبت بأنها أحياناً ترتكب بحق شعوب كاملة من مُستعمرٍ ما، وأحياناً من منطلق العنصرية القومية وأحياناً أخرى من منطلقات دينية أو سياسية أو عصبيات ضيقة.

أما الفصل الثاني، فقد اختص بدراسة أسس حدوث الإبادات الجماعية ودوافعها، وجاء اشتغاله على وفق موضوعات محددة، مثل: التطرف الديني الذي ارتكز إلى عاملين: الأول كالتثقيف الديني لاسيما لدى الشباب من دون معرفة الصواب والخطأ عندهم في سعي مقصود إلى إرباك مفاهيم الثقافة الدينية وبقاء التباسها لديهم لعدم الرجوع إلى العالم المختص بالشأن الديني وهذا الأمر سيؤدي إلى استغلالهم، أما العامل الثاني فهو إشاعة فهم خاطئ أحادي للدين وتعاليمه، لاسيما في فهم موضوعات خاصة بالآخر المختلف، فالتعاليم السماوية مرجعها الرحمة والدعوة إلى الخير والصلاح، ولا تدعو إلى الإرهاب والشر والقتل غير المبرر، وبالنتيجة إنّ أي سلوك يقترب من هذا المنحى هو بعيد عن الدين وتعاليمه، وقد قدمت الباحثة نماذجاً لهذا السلوك المنحرف الذي تمثله بعض الجماعات الارهابية من أتباع السلفية المتطرفة.

ومن أمثلة التطرف التي اشتغلت عليها الباحثة، لكن هذه المرة ليس لها علاقة بالدين إنما يرتبط بموضوعات أخرى، منها، القومية التي غاب عن الكثير من الباحثين ارتباطها بالتطرف، والحقبة المعاصرة شهدت أشكالا مختلفة من هذا النوع من التطرف لعل أبرز تمثلاتها هي النازية في المانيا، والتطرف القومي لنظام حزب البعث في العراق اتجاه غير العرب لاسيما الكورد. وهناك التطرف الذي يرتكز إلى العنصرية، والمصالح السياسية، وربما غاب عن بعض الباحثين شكل من أشكال التطرف قد تنبهت له الباحثة وهو الصراع القبلي الذي عادة ما يُعرف لدينا بالنزاعات العشائرية التي ترتكز إلى العصبية في عدة أحيان.

وفي الفصل الثالث، الذي وصفه الأُستاذ الدكتور محمد حسين الصغير بالقول: (وكان الفصل الذي تناول حرمة الإبادة الجماعية فقهاً وقانوناً كالعقد الفريد، تتراصف فيه مقومات البحث المنهجي ومرتكزات المنهج المعرفي، وآليات الاستعراض والاستدلال الدقيق)، فقد تضمن مبحثين تضمن الأول: حرمة الإبادة الجماعية فقهياً، والثاني: حرمة الإبادة الجماعية قانونياً، فحرمة الإبادة الجماعية فقهياً، استندت الباحثة في دراستها إلى النص القرآني وأحاديث الرسول (ص)، فضلاً عن أحاديث ائمة آل البيت (ع)، ولم تكتف الباحثة بروايات آل البيت (ع) عن الرسول الأكرم(ص)، إنّما رجعت كذلك إلى الروايات التي ترويها المذاهب الإسلامية الأخرى عن النبي الأكرم(ص) في حرمة الإبادة الجماعية، إذ شمل اشتغالها الاهتمام بآراء علماء الدين من دون الاقتصار على مذهب محدد، بل ذكرت في دراستها نماذجاً مختلفة من آراء العلماء.

وفي ضمن متابعتها القانونية، تم دراسة نص وثيقة حقوق الانسان في الإسلام في سنة 1990م، وهذا النص صدر عن الدول الأعضاء في المؤتمر الإسلامي وأكدت في المادة الثانية منه ومواد أخرى فيه على حماية حق الحياة فضلاً عن المحافظة على استمرار الحياة البشرية وجاء تحريم الإبادة الجماعية ليس للبشر فحسب، إنما تشمل الموجودات الحياتية الأخرى، فلا يجوز أيضاً قطع الشجر أو اتلاف الزرع والضرر أو تخريب المباني ومنشآت المدينة من خلال قصفها أو نسفها أو غير ذلك. كذلك أشارت إلى بيان الأمم المتحدة المتعلق بحقوق الانسان لسنة 1948م وهو البيان المعروف للجميع الذي تضمن حق الحياة، مع الإشارة إلى سياسة الأمم المتحدة في معالجة الثغرات في النظام الدولي ولاسيما مع حدوث إبادات جماعية في تسعينيات القرن العشرين، مثل سياسة تعيين شخصية بدرجة وكيل للأمين العام مختص في الإسهام بمنع الإبادة الجماعية.

أما الفصل الرابع، فقد ارتبط بشكل مباشر بعنوان الكتاب، فقد تطرقت الباحثة إلى الجرائم التي ارتكبت بحق الشيعة في دول عدة من العالم، منها: العراق، وأفغانستان، وباكستان، وإيران، ولبنان، وسوريا، والهند، واليمن، وأذربيجان، وتركيا، والحجاز، وغيرها من الدول الأخرى، مع التأكيد إنَّ تلك الجرائم لم تنته، فالعنف والقتل والتهجير، لا يزال مهيمناً في مناطق عدة، واللافت في الدراسة إنَّ الباحثة لم تكتف بذكر الجرائم التي ارتكبت في الحقبة الراهنة إنما رجعت إلى حقب قديمة كأرشفة تاريخية مختصرة.

إنّ الفصل الرابع لم يُعرّف الجرائم التي ارتكبت بحق الشيعة فقط، إنّما منح القارئ مقدمة تعريفية أو خارطة جغرافية بمنظور تاريخي لوجود الشيعة في الدول موضع الدراسة، مع الملاحظة أن الجرائم التي اُرتكبت بحقهم لم تقتصر على الدول التي يشكلون فيها أقلية إنما شملت الدول التي هم فيها أغلبية أيضاً، وهذا الموضوع ينبغي الاهتمام به ودراسته لأن الإبادة عادة ما تُرتكب بحق الأقليات، أما مع الشيعة فقد أرتكبت في دول هم فيها أغلبية !!! فضلاً عن ذلك إن تلك الإبادات قد قُتل فيها الرجال وسُبي النساء والأطفال، وكانت وسائل القتل فيها متنوعة بين دفن الضحايا وهم أحياء أو شنقهم، أو من خلال العبوات الناسفة والسيارات المفخخة وغيرها.

ولم تكن الإبادة بشكلها المشهور وهو القتل الجماعي، إنما شملت أيضاً محاولة الإبادة الثقافية لتراثهم وهويتهم الثقافية عبر إخفاء وتغييب لكل ما يمت لتراثهم بصلة فضلاً عن إحراق المكتبات، وهذا السلوك له امتدادات قديمة لأكثر من ألف سنة منذ إحراق المكتبات مثل مكتبة الشيخ الطوسي- مع التأكيد أنّ هذه الحادثة لم تكُن الأولى فقد سبقتها بقرون حوادث أُخرى- وصولاً إلى الإبادة الثقافية التي تعرض لها الشيعة في العراق مع نظام البعث وما تلاه من جرائم التنظيمات الإرهابية عبر القتل على الهوية، وهدم المراقد الدينة، والمساجد، والحسينيات.

وهناك التفاتة مهمة من الباحثة تضمنت الإشارة إلى ضرورة انصاف الشيعة لأنفسهم، لا سيما ونحن نعيش في عالم يُعرف الفرد بجماعته، مع عدم إنكار لفرديته، فالهوية اليوم ليست فردية أو شخصية إنما هي هوية جماعية تتشارك الجماعة بتشكيلها، فاعتراف الفرد بهوية جماعته واعتزازه بانتمائه لها هو قوة للفرد والجماعة، وهذا الأمر لا يعني القول بإقصاء الجماعات الأُخرى إنّما هو إنصاف لذات الفرد وجماعته مع اعترافه بالجماعات الأُخرى، فضلاً عن العمل على بيان الهوية الحضارية للجماعة والتعريف بها وما تتضمنه من تراث ثقافي، ورموز دينية وعلمية، سعت لبناء أوطانهم التي ينتمون إليها، فالشيعة يؤمنون بأهمية الولاء للأوطان، وهذا ما يؤكده علماؤهم مع اعتزازهم بهويتهم الدينية، فهم ليسوا منغلقين على ذواتهم بل إنهم منفتحون على الآخر من منطلق الاعتراف به والحوار معه.

إنَّ هكذا نوع من الدراسات التي بيَّنت ما اُرتكب من جرائم بحق الشيعة في دول عديدة حملت رسالة بمضامين عدة، منها: الأولى، رسالة إلى المجتمع العالمي، بأنّ هناك جماعة بشرية تعيش في دول عدة حقوقها منهكة، لاسيما حقها في الحياة، وتضمنت الدراسة رسالة كذلك إلى الدول التي يعيش فيها الشيعة المطالبة بضرورة ضمان حقوقهم الإنسانية، ورسالة أُخرى إلى الشيعة أنفسهم بضرورة نَظمِ أمورهم.