ataba_head
banarlogo

السلم المجتمعي والعدالة الانتقالية المبررات والآليات والعلاقات

السلم المجتمعي والعدالة الانتقالية
المبررات والآليات والعلاقات

 

الكاتب علي الفريجي

 

من خلال التجارب التي خاضتها دول مرت بمراحل العدالة الانتقالية، فأن بلوغ عملية النجاح تعتمد على قاعدتين أساسيتين، هما ارادة سياسية جادة وثقة متبادلة بين أطراف عملية الانتقال وهما شرطان من شأنهما تمكين آليات التغيير من التحرك المنتظم تجاه أنجاز أهدافهما، بدءاً من المصارحة والمحاسبة وجبر الضرر، مروراً بالمصالحة وإصلاح المؤسسات وصولاً إلى تخليد الضحايا وترسيخ الضمانات بعدم تكرار مأسي الماضي، غير أنهما يحتاجان لضمان فاعليتهما إلى توافر أرضية ثقافية وأخلاقية، يجب إبراز ضروراتها سواء بالمقارنة مع الاخرين أو بإثارة الاشكاليات التي تعود إلى طبائع بعض الشعوب لا إلى الشرائع والنظم القائمة ومن ذلك غلبة الروح الثأرية وسيطرة النزعة التبريرية مقترنة بغياب ثقافة الاعتذار والنزوع الى أقصاء الغير وعدم الإيمان به ومحاولة تهميشه. ويرتبط ذلك بقضية أخرى ألا وهي من يقود عملية الانتقال ومن يشارك في أدارتها، في حين تُظهر تجارب الانتقال الناجحة ضرورة تخلي تلك القوى عن ذاتيتها لإنجاز ذلك الانتقال.

وتشير بعض التجارب إلى أنّ تشبث بعض القوى برؤاها وانحيازها الأيديولوجي، والاجتماعي، والطائفي، بل وحتى المناطقي قد عطلت التغيير والانتقال، ومنها من أوجد استقطاباً مجتمعياً ساعياً لإنتاج الماضي.

وتشير العدالة الانتقالية إلى حقل من النشاط والتحقيق الذي يركز على المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان، كالإبادة الجماعية أو أية أشكال أخرى من الانتهاكات مثل الجرائم ضد الانسانية والحروب الأهلية، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية ولمستقبل آمن. فمع حدوث التحول السياسي بعد مدة من العنف أو القمع في مجتمع من المجتمعات يجد المجتمع نفسه في كثير من الأحيان أمام تركه صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، وبذلك تسعى الدول إلى التعامل مع جرائم الماضي رغبة منها في تعزيز العدل والسلام والمصالحة، لذلك يفكر المسؤولون الحكوميون، ونشطاء المنظمات غير الحكومية في انتهاج آليات العدالة الانتقالية لغرض تحقيق أحساس بالعدالة أكثر شمولاً وأبعد أثراً. والأسباب الموضوعية التي أدت الى ظهور فكرة العدالة الانتقالية هي طبيعة النظم الاستبدادية والأيدولوجية التي كانت تُحكم بها البلدان طيلة مُدة وجودها بالسلطة.

وعادة ما تكون قمعية خارجة عن نطاق القانون الإنساني والدولي وكذلك حجم ونوعية التركة الثقيلة التي تخلفها النظم الاستبدادية سواء كانت على الجانب الانساني والويلات التي تتعرض لها الشعوب، أم حتى على جانب مؤسسات الدولة إذ تصبح مؤسسات قمعية بكل تصرفاتها و أفعالها و التجاوز الصارخ من قبل الانظمة القمعية للمعايير والأعراف الدولية وقوانين الشرعة الدولية لحقوق الانسان والعمل على منع تكرار النُهج السلطوية القمعية وحماية المجتمع من شرورها، وكذلك توجه المجتمع الدولي للكف عن الحقيقة المتمثلة بثلاث مبررات رئيسية، وهي:-

  1. رغبة الضحايا وعائلاتهم لمعرفة الحقيقة.
  2. الرغبة في عدم طمس الماضي.
  3. معرفة الحقيقة بكل عناصرها.

ويمكن تقسيم المبررات الاجرائية الخاصة بالعدالة الانتقالية لتشمل ما يلي:-

  1. تغيير طبيعة وسائل الاعلام الاخبارية في العالم، ففي الوقت الذي يكون فيه من المرجح أن نشاهد الفظائع التي ترتكب في مكان ما وتنقل الى كافة أنحاء العالم. يكون منتظراً من حكومة ذلك البلد ان ترد بصورة ما، ويصبح ذلك على الأقل للحكومات الاجنبية والهيئات الدولية التي تتعرض لضغوط متزايدة لإقرار المساءلة عند نقل أنباء الفظائع الواسعة النطاق بصورة حية وواقعية في وقت حدوثها تقريباً.
  2. النمو في حجم تأثير مؤسسات حقوق الانسان بصفة خاصة وقطاع المنظمات غير الحكومية بوجه عام، مما أنشأ ضغطاً جديداً في مواجهة مسألتي العدالة والمساءلة. ومع بروز دور هذه المنظمات في مناقشة السياسات العامة، لم تعد تستطيع الحكومات حجب هذه المسائل عن النقاش.
  3. أصبح القانون الدولي واضحاً بصورة متزايدة خصوصاً فيما يتعلق بـ(جرائم الإبادة، الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، التعذيب)
  4. تغيير طبيعة الحرب، فبحلول نهاية القرن الماضي كان ما لا يقل عن ٩٣% من الصراعات العنيفة في العالم لا تدور بين الدول وإنما داخل الدول، ولما كانت هذه الصراعات غالباً ما تواكبها انتهاكات واسعة لحقوق الانسان، فإن ذلك حتم الوصول إلى كل شكل من أشكال تطبيق العدالة بين الأطراف من أجل ضمان الاستقرار في المستقبل
  5. إن الزيادة في تواتر الصراعات داخل الدول واكبها توسع ملحوظ في استخدام المدنيين كتكتيك في خوض تلك الحروب كل ذلك أثار اهتماماً واسعاً بإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء النزاع أو الحرب والصراعات كوسيلة للمعاقبة على هذا السلوك وتطهير البيئة التي تنشأ بها، بعد انتهاء الصراع من أي ميل للعودة إلى مثل هذا السلوك.

يقول الصحفي الاسباني (ايفايكي غابليونرو): لا طريق نحو المستقبل من دون مواجهة صريحة وعادلة مع الماضي، الذاكرة التأريخية أهم وأقوى من أن يُعتمد على النسيان لمعالجتها، أنها مصنوعة من مواد متفجرة.

واستكمالاً لخطوات تحقيق العدالة الانتقالية، تأتي خطوة الإصلاح المؤسسي كخطوة مهمة وضرورية لغرض ضمان سلامة إنجاح مسيرة الانتقال للمجتمع الديمقراطي، فمن غير المنطقي أن تتم المحاسبة وتعويض الضحايا مع الابقاء على تشكيل وأفراد المؤسسات التي تورطت في ارتكاب الجرائم، ومن هنا تبرز أهمية إجراء التعديلات وهيكلة المؤسسات ذات الصلة بالانتهاكات وتطهيرها من بعض العناصر التي يثبت تورطها بالأدلة في ارتكاب الجرائم، لضمان عدم تكرار تلك الممارسات مرة أخرى في المستقبل من قبل أي من أجهزة الدولة ولما تقدم فأن آليات تنفيذ العدالة الانتقالية هي:

أولاً:- الآلية القضائية

ان إصلاح المؤسسة القضائية ضروري لترسيخ الأمن والأمان كون القضاء يشكل الدعامة الأساسية التي يفترض أن تقوي وتدعم الديمقراطية اعتماداً على القضاة وغيرهم من ذوي الصلة بالشأن القضائي، حيث يضطلع القضاة بمهمة كبيرة في مسألة تنفيذ آليات وعمليات العدالة الانتقالية، إذ تسعى آلية المحاكمات الجنائية إلى محاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم وخاصة الجرائم المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الانسان.

ولا يمكن المباشرة في تنفيذ الإصلاح من دون توافر مقومات أساسية هي:-

  • وجود الإرادة السياسية.
  • سيادة القانون واستقلال القضاء.
  • أنشاء محاكم خاصة بشؤون مجرمي الحرب ومحاكمتهم وهي الخطوة الاهم لتجاوز أشكال الاستبداد.

ثانيا:- آلية النظام الامني

    1- إصلاح الأجهزة الأمنية

يمثل إصلاح الأجهزة الأمنية المتعددة أحد التحديات المهمة التي تواجه خطوات التغيير وتحقيق العدالة الانتقالية، هذا ولابد من هيكلة الأجهزة الأمنية لتغدوا جزءاً طبيعياً من المنظومة المجتمعية، بل حامية لها ومانعة للتناقضات غير المسوغة التي يمكن أن تحصل فيها، وإن إصلاح هذا القطاع سيكون مفتاح تطبيق العدالة الانتقالية، وثمة إجراءات لابد منها في عملية الإصلاح المطلوبة في ضمن هذا القطاع الأمني الواسع الذي كثيراً ما تداخلت وتشابكت مهماته وتنافست فروعه فيما بينها في أداء واجب حماية السلطة وتنفيذ مخططاتها.

ويمكن تلخيص تلك الإجراءات المطلوبة بما يأتي:-

  • تسريح مسؤولي الأجهزة الامنية لإزالة النواة الصلبة التي تم الاعتماد عليها من قبل رأس النظام.
  • توحيد الأجهزة الأمنية ضمن قطاع مهمة خدمة الوطن والمواطن، ويكون خاضعاً لقوانين العدالة الانتقالية والمحاسبة الدستورية ومتطلبات حقوق الانسان.
  • إعادة تأهيل قطاعات الأمن والشرطة بحيث تصبح مقبولة لدى مكونات المجتمع
  • إصلاح الشروط والمعايير في اختيار العاملين في قطاع الأمن والشرطة، بحيث يفسح المجال لكل أبناء الوطن، بعيداً عن أي تمييز وتراعى فيها معايير الشهادة والكفاءة وتحدد الاختصاصات بدقة.

    2- إصلاح دور التوقيف والسجون

إن إصلاح دور التوقيف والسجون خطوة أساسية في عملية إحقاق العدالة، وإن أبرز أهدافه هي:-

  • تطبيق أسس العدالة وحقوق الانسان التي تقضي بوجوب عدم ممارسة أي شكل من أشكال الإكراه أو الإساءة الجسدية أو المعنوية.
  • إطلاق سراح الأشخاص المحتجزين بصورة تعسفية غير قانونية.
  • إعادة النظر في الوضع العمراني للسجون.
  • تأهيل عناصر الإدارة والعاملين ليصبحوا خبراء بشؤون السجون.

 

3- آلية حقوق الانسان:-

منذ البداية كانت حماية حقوق الانسان هي الواسطة في أعمال المجتمع الدولي بشأن العدالة الجنائية، ففي مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة سنة ١٩٥٥م تم التوصل إلى اتفاق بشأن القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء.