من السجل الأسود لنظام صدام المباد
إعدام الطفلة أنوار البكّاء
الأستاذ عبد الهادي الركابي
هي قصة من بين آلاف القصص.. هي رد على آلاف التهم…….
هي موجهة لكل من يبرر لصدام ولغير صدام ما حدث وسيحدث.
على الرغم من وجود آلاف القصص عن معاناة ضحايا النظام البائد، لكني بدأت بهذه القصة التي رواها أحد الذين بقوا على قيد الحياة من هذه العائلة، والسبب يعود أولاً: لكبر حجم الجريمة وجسامتها، حيث أقدم جلاوزة النظام المقبور على اعدام ثمانية أفراد، أخوة وأخوات من عائلة واحدة فقط، كانوا يعيشون في بيت واحد، لأب واحد وأم واحدة، وليسوا في بيوت متفرقة!
الثاني: لبشاعة الجريمة وغرابتها، ولعدم وجود سابقة لها. نعم.. لقد وأد صدام أطفالاً في أعمار الزهور، وهم يحتضنون لعبهم وحاجاتهم البريئة، في مقابر جماعية جنوب العراق عام ۱۹۹۱ م. نعم، لقد خنق أطفالاً في أعمار الورود بالأسلحة الكيمياوية في حلبجة وكردستان العراق عام 1988م، لقد أطلق النار على أجنة في بطون أمهاتهم، وهشم رؤوس أطفال.
لقد فعل صدام كل ما لا يخطر على بال انسان، وما لا يمكن أن تتصوره مخيلة انسان سوي، أو شاذ حتى في خيالاته! بيد انه لم يحصل في التاريخ، لا القديم ولا الحديث ولا المستقبلي، فلم تشهد، ولن تشهد سجلات المحاكم، ولا أحكام القضاء، ولا قرارات النقض في محاكم الاستئناف، أو التمييز، أو العليا في العالم، ان محكمة رسمية، فيها ثلاثة قضاة وادعاء عام ومحامي دفاع، تصدر حكماً بالإعدام شنقاً حتى الموت، ليس على ثمانية أشخاص تباعاً، وإنما على طفلة لم تبلغ سن الرشد، اعتقلت وهي في الحادية عشرة من عمرها، وأعدمت وهي في الثالثة عشرة، بعد سنتين من التحقيق والتعذيب والاستعباد والاعتداءات المتكررة!
هذا ما حصل مع الطفلة ” أنوار عبد الأمير محمود البكاء” إذ تقول القصة: في مطلع الأربعينات، تزوج السيد عبد الأمير محمود البكاء من السيدة صفية الشيخ علي، إذ انتقلت معه إلى دارها الجديد، وقد أنجبت له أحد عشر ولداً وبنتاً، وهم بين أطباء ومهندسين ومدرسين وطلاب جامعات، تزوجت ثلاث بنات من ذريتها، هُنَّ اللائي ما زلن على قيد الحياة….
وفي عام ۱۹۷۱ م ماتت صفية وسرعان ما لحقها زوجها السيد عبد الأمير في يوم أربعينها، فدفنا في مقبرة “وادي السلام”، على مقربة من مرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، سكن أولادها وبناتها الثمانية الباقون في منزلهم ذي الرقم ٤٠/١/١٦ حي البساتين في منطقة “سبع ابكار” التابعة لقضاء الأعظمية ببغداد، وهم كل من:
- فائز البكاء من مواليد ١٩٤٦م
- فاروق البكاء من مواليد ١٩٥٠م
- فريدة البكاء من مواليد ١٩٥٣م
- فرزدق البكاء من مواليد ١٩٥٥م
- علاء البكاء من مواليد ١٩٥٧م
- سندس البكاء من مواليد ١٩٦١م
- ذكريات البكاء من مواليد ١٩٦٤م
- أنوار البكاء من مواليد ١٩٦٨م
في أحد صباحات أيام عام ۱۹۸۰م المشؤوم، طوق جهاز النظام ” الأمن العام” بأسلحتهم وسياراتهم “اللاندكروزر” منزلهم وانقضوا عليهم يجرجرونهم من دارهم، خرج الجيران ينظرون إليهم خلسة، ويتساءلون بخوف عن سر اعتقالهم. سمع أحد الضباط “فريدة” تهمس في أذن جارتها قائلة: بالله عليك ألا ما آويت اختي الصغيرة “أنوار” حينما تعود من المدرسة ظهراً، أرجو أن تطعميها، حتى يُفرج الله عنا! سألها الضابط على الفور بفضاضة وأين هي الآن؟ ردت بهدوء: انها في المدرسة. حملت السيارات العائلة المنكوبة وانطلقت باتجاه المدرسة، أخرجوا “أنوار” من صفها الخامس الابتدائي، وهي تحمل حقيبتها الجميلة، بكتبها ودفاترها وأقلامها، أصعدوها في احدى سياراتهم، وتحركوا صوب “مديرية الأمن العامة” وسط بغداد، سنتان، أو ثلاث من الاعتقال والتعذيب الهمجي المستمر، الذي لم يتوقف في يوم من الأيام، لم يخرج كل من دخل من الناس الى هذه المديرية المقيتة المرعبة بتهمة ما حيّاً، إلا نفر قليل جداً، لحسن الحظ، أو الصدفة، وكلهم تحدثوا عن شتى صنوف التعذيب وأساليب امتهان الكرامة، التي مارسها الجلادون والمُعذِّبون، أما بحقهم حيث يروونها كشهادات، أو بحق غيرهم، عندما كانوا يستمعون إلى نداءات الاستغاثة وصرخات المعذبين والمستغيثين، المتوسلين برب السماوات والأرض… وما من مجيب!
لماذا مارس صدام وعناصر نظامه، من المتورطين معه في الانتماء الى أجهزته القمعية والارهابية، كل تلك الأساليب الوحشية بحق أبناء الشعب العراقي؟! الجواب ببساطة: لأن هذا الشعب لم يوالهِ يوماً، أبى أن يذعن له، ويكون عبداً ذليلاً تافهاً، يُنَفّدُ سياساته الخسيسة، ويمجّد أفعاله الدنيئة. لهذا كله أرادوا أن يمسخوا الانسان العراقي، ليثبتوا وجودهم ويتمسكوا بمواقعهم، التي استولوا عليها من غير حق، فمارسوا كل الأساليب الهمجية واللاإنسانية بحق الأبرياء والشرفاء، من أجل انتزاع اعتراف منهم، ولو كان مُلفّقاً أو كاذباً لا أساس له!
كانت التهم التي وجهت إليهم عديدة، منها: تأليب المواطنين ضد ما يسمى “قيادة الحزب والثورة” وتوزيع المنشورات المعادية للنظام البعثي على الشعب والاشتراك في انتفاضة رجب عام 1979م ضد النظام الحاكم، وغيرها من التهم الجاهزة، وقد جاء قرار إعدام هذه العائلة على مرحلتين، بقرار صادر من شخص “صدام حسين” نفسه بحسب الوثائق المنشورة، الأولى في زمن ما يسمى برئيس محكمة الثورة ” مسلم هادي موسى الجبوري” وعضوية كل من “العقيد داود سلمان شهاب” و”المقدم ياسين عباس أحمد”، والثانية في زمن ما يُسمى برئيس محكمة الثورة ” عواد حمد بندر السعدون” وعضوية كل من “العقيد داود سلمان شهاب” أيضاً والمقدم طارق هادي شكر.
لم يكتف صدام بكل هذه الإعدامات، إنّما حكم عليهم أيضاً بعد إعدامهم بمصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة، فصادر أموالهم ورواتبهم ومدخراتهم وسياراتهم وحلي البنات ومصوغاتهن، وصادر حتى ذكرياتهم، من صور ورسائل…
ولعله من المضحكات المبكيات، إنّه صادر بيتهم أيضاً في “سبع أبكار ” وقدَّمه هدية إلى أحد ضباط الأمن برتبة نقيب، ممن أسهم هو وأمثاله في قتلهم وقتل غيرهم من الأبرياء.
وبعد سقوط صدام وحزبه الشمولي في 9 نيسان ۲۰۰۳م بدأ ذوي الشهداء المغدورين من هذه الاُسرة يبحثون عن قبور شهدائهم ممَّنْ أعدموا، فلم يجدوا لهم أثراً ولا ذكراً، سوى في سجلات ووثائق السلطة المنهارة..؟!
وحينها قال أحد أقرباء الشهداء:” اليوم تتعالى في أرجاء العراق وخارجه، أصوات تدعو إلى التسامح والمصالحة الوطنية مع حزب البعث الصدامي، والتسامي على الجراح، وطي صفحة الماضي الأسود… لم لا!؟ فنحن أبناء بلد واحد! ولكن ليس قبل أن يُحاكم من قتل أبناء وبنات عمتي الثمانية الأبرياء، ويدلنا على قبورهم)!
هكذا قال فائق الشيخ علي ابن خال الشهداء الثمانية…