ataba_head

مذكرات طبيب أجنبي في سجون صدام مراجعة لكتاب (كنت سجين صدام)

مذكرات طبيب أجنبي في سجون صدام

مراجعة لكتاب (كنت سجين صدام)

 

د. قيس ناصر

باحث وأكاديمي

 

استوقفني كتاب بعنوان كنت سجين صدام لمؤلف باسم مستعار (أبو جميل)، وهو بالأصل قد كُتب باللغة الانجليزية بعنوان (I was Saddam’s Prisoner)، وقد ترجمه إلى العربية انيس البغدادي. وقبل قراءته، من ملاحظة العنوان، كنت أظنه يعتمد الخيال الأدبي في وصف سجون صدام، ولا سيما أنّ أدب السجون العالمي في أحد أشكاله، يعتمد ذلك، مع تأكيده أهمية حضور الخيال فيها، لكني حين قرأت هذا الكتاب، تبين العكس من ذلك، فهو رواية حقيقية لا تمت للخيال بصلة.

كتاب كنت سجين صدام، مذكرات عاشها المؤلف وزوجته في مأساة كاملة الفصول، ووثقها من خلال كتاب وباسم مستعار (أبو جميل)، من هو أبو جميل؟ بتعبير آخر ما الاسم الحقيقي لكاتب هذه المذكرات؟ إجابة هذا السؤال لم يشر إليه حتى مترجم الكتاب، بعد سقوط نظام البعث في العراق، ويبدو أن الرعب وما عاشه الكاتب في السجن منعه حتى من ذكر اسمه الحقيقي بعد زوال صدام.

من خلال البحث تبين أن مؤلف كنت سجين صدام، هو طبيب العيون الباكستاني ملا أصغر علي محمد جعفر المولود عام 1936م في كينيا، وفي الثمانينيات من القرن العشرين زمن النظام البعثي في العراق، كانت له زيارة للعراق، بمناسبة ذكرى زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام كما يروي ذلك هو في مذكراته (كنت سجين صدام) ويصف الحال الذي وصل إليه أحياؤها من منع لإقامتها بأساليب مختلفة. لقد تحدث الدكتور علي القريشي عن ملا أصغر بأسطر تعريفية في أثناء حديثه عن جماعة الخوجة في كتابه (لماذا أعدم الحاج جيتا؟) قائلاً عنه، بأنه من الثقات المعتمدين لدى عدد من مراجع التقليد والفتيا الإمامية، ونال حظاً وافراً من الدراسة الشرعية، وأتقن العديد من اللغات، التي منها العربية، وفي زيارته للعراق، قد اعتقلته السلطات الأمنية، ومكث في سجونها أربعة أشهر ويومين، ولم يفرج عنه إلا بعد ضغوط مباشرة من انديرا غاندي، رئيسة وزراء الهند آنذاك، وضياء الحق رئيس باكستان في ذلك الوقت، والسلطات العليا في كل من بريطانيا- موطن إقامته- وكينيا –محل ولادته- ودول أُخر في تلك الحقبة.

بالعودة إلى مذكرات (كنت سجين صدام)، التي دعا ناشر نسختها العربية (دار الإنسان)، العراقيين لتوثيق مأساتهم وما جرى عليهم إبّان النظام البعثي، ولا سيما أن اغلب العراقيين قد عانوا ذلك، وهذا ما فعله سجين أجنبي عانى من نظام صدام لأشهر معدودة، فكيف بالعراقيين الذين عاشوا عقوداً طويلة؟!

كتب أبو جميل أو الدكتور ملا أصغر بعد الإفراج عنه ومغادرة العراق عشرين فصلاً توثّق أشكال التعذيب النفسي والجسدي التي عاشها في السجن، وروى فيها قصصاً عن تعذيبه وتعذيب مجموعة من الضحايا الذين شاهد أساليب تعذيبهم،، دعاه لتوثيق ما جرى على الرغم من مطالبة أصدقائه وأهل بيته عدم التحدث عن ذلك، إلا أنه قرر تمثيل صوت الضحايا، مستجيباً لصوت خفي كما عبر عن ذلك هو، ممثلاً عن صوت الأمهات الاتي كُن ينتظرن عودة أبنائهن الذين غُيبوا، أو صوت شابة قد اُعتقِل خطيبها أو زوجها، وصوت أطفال يبحثون عن إجابة لسؤال قد كرروه على أمهم- إن لم يفقدوها هي أيضاً- أين أبي ؟ وقائمة الضحايا طويلة جداً في هذا السياق.

إن مشهد الفصل الأول يبدأ من صناعة الخوف والرعب وهي السياسة التي اعتمدها النظام البعثي في خارج السجن وداخله، في داخل السجن، يبدأ المشهد من الحديث عن أساليب التعذيب المختلفة مع قصص مختلفة، في مشهد للسجناء وهم متجمعون بأعداد كبيرة في زنزانة بالأصل تتسع لـ 60 سجيناً، إلا أنهم وضعوا فيها المئات، وفي فصل آخر يذكر قصة أول تحقيق والأسئلة الموجهة إليه، مثل: هل تصلي؟ وفصول أخرى تضمنت قصصاً للمساجين الذين شاركوه الزنزانة.

إن أساليب التعذيب التي ذكرها الكاتب في مذكراته (كنت سجين صدام) تستدعي التوقف عند كل أسلوب منها ودراسته والكتابة عنه بشكل تفصيلي، وقد تضمن الكتاب وصفاً للأحداث التي مرّ بها المؤلف، وقد نجح المؤلف والمترجم -لأن النص بالأصل باللغة الانجليزية- في الحفاظ على الحقيقة كما عاشها الضحايا، الذين منهم المؤلف نفسه، مع تأكيد القول أن القصص المروية لمشاهد التعذيب التي شاهدها لا تخص السجناء السياسيين، إنما في أغلبهم اشخاص عاديين وبعضهم من ديانات وقوميات ودول مختلفة وهي لا تختلف عن أساليب التعذيب والجريمة البعثية التي يكتب عنها الدكتور رائد عبيس في سلسلة مقالاته التي ينشرها في موقع المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف.

إن مذكرات (كنت سجين صدام) قد كشف أساليب التعذيب التي مورست باتجاه السجناء، في عالم خلا من القيم، وتغلبت عليه الوحشية، ولا يمت للإنسان بصلة، وعلى الرغم من العذاب النفسي والجسدي الذي عاشه المؤلف، إلا أنه لم يسكُت عما جرى، وكتب عنه وإن كان باسم مستعار، وسيظل هذا النص شاهداً ووثيقة ثقافية لوصف قسوة النظام البعثي.