لماذا نوثق؟
أ.د. حسين الزيادي
التوثيق ذاكرة الشعوب وتعبير عن حيوية الأمة واعتزازها بماضيها وتخليدها لشهدائها ورموزها، وهو المحور الأساس للاستمرار والوجود وأداة التعامل في الحاضر وضمان التواصل في المستقبل، ولا تقتصر أهمية التوثيق على تسجيل الوقائع والأحداث، وإنما يتعدى ذلك ليكشفَ أيضاً عن طبيعة الأنظمة السياسية والاستبدادية وحركة الشعوب وحيويتها ودفاعها عن مقدساتها وقيمها ومبادئها، ومعضلة التوثيق في العراق تتمثل بكونه خاضعاً للسياسة والحزبية والمجاملة والمداهنة، ولم يتحول إلى ثقافة راسخة ودائمة، فإذا لم تتلف وثائق النظام القديم تدرج في أحسن الأحوال تحت بند الممنوعات، وتبقى رهينة الرفوف يغطيها غبار السنين، فالتوثيق هو ثقافة، وفن، وصناعة وهو حق من حقوق الأجيال القادمة.
للأسف نحن أمة لا تمتلك ثقافة التوثيق على الرغم من أهميته، وإن وجد فإنه لا يصل إلى المستوى المأمول فيعتريه النقص والعجز والتباين، والمعروف ان كل حدث لا يوثق يعامل على انه فعل لاوجود له، ومع الزمن ربما يتعرض الحدث للتلاشي والإنكار من قبل الطرف الآخر أو للنسيان والاهمال، وربما يعترض البعض على التوثيق ويعده استرجاعاً للمآسي والأحزان واجتراراً للمواجع والآلام وتقليباً للماضي بكل ما يحمل من أوجاع وبؤس، وبطبيعة الحال إن ما يقال ليس صحيحاً وهي كلمات حق يراد منها باطل، بل هو نوع من أنواع الفساد والمجاملة الباطلة على حساب الحقيقة وحقوق الضحايا، لأنه لا حاضر بلا ماض، وما الحاضر إلا نتاج الماضي وما الحاضر إلا مقدمات للمستقبل.
لقد دفع العراق في الماضي مئات الآلاف من خيرة أبنائه من شرائح وطبقات مختلفة و انتهكت حقوق أبنائه بلا هوادة، وحصدت ماكنة الإرهاب أناساً بمختلف الأعمار وتناثرت الجثث في الأزقة والشوارع والطرقات، والتصقت الأشلاء بالجدران وواجهات المباني، وبعضهم اذيبت اجسادهم في أحواض التيزاب وآخرون دفنوا أحياء ولم يعثر على رفاتهم ولا قبورهم، وهناك عائلات هُجِّرت، وأمهات ثكلت وزوجات رملت، وأطفال تيتموا، وشباب فقدوا أطرافهم، وهذه المواجع والأحزان لا يمكن تناسيها والتغاضي عنها – سواء نسبت هذه الجرائم لنظام البعث او لامتداده الشرعي داعش والتيارات الارهابية – لأننا لا نمتلك هذا الحق، ولان الوقوف بوجه الماضي الأسود يتطلب منا على أقل تقدير توثيق جرائمه وانتهاكاته، فضلاً عن منع عودته تحت أي مسمى، لأن التاريخ قد يعيد نفسه ما لم تتخذ أساليب الحيطة والحذر.
يتخذ البعض من حجة التركيز على الحاضر ومعالجة مشاكله وهمومه؛ والتطلع إلى المستقبل ذريعة لعدم ذكر جرائم البعث وزبانيته ويطالب بأسدال الستار على التاريخ الإجرامي لذلك النظام؛ والمؤسف أن بعضهم مازال يعتقد أننا نبالغ ونعطي البعث دوراً أكبر من حجمه معتقدين بسذاجة، أن البعث قد أنتهى وولى وقبر وهي نظرة قصيرة المدى لأن أصحابها تناسوا إن نظام البعث يستطيع العودة بزي آخر ومسميات متعددة وصور مختلفة.