شهيد البصرة الحاج عبد الحسين جيتا (1911-1969م)
د. قيس ناصر
باحث وأكاديمي
للمهتم بفهم القوى الدينية ونشاطاتها في البصرة، يُلاحظ الهمة التي بدت عليها، في منتصف القرن العشرين، وهنا الحديث عن أتباع مذهب الشيعة الاثني عشرية الأصولية، هذه الهمة ونشاطاتها، يمكن تشبيه عملها التكاملي بالمثلث، الذي قاعدته، الأُسر الدينية، مثل أُسرة السيد القزويني، ولاسيما عميدها السيد أمير محمد القزويني، وأسرة السيد عبد الحكيم الصافي، وأسرة المظفر في شمال البصرة، فضلاً عن بقية الأُسر الدينية، أما أضلاع المثلث فهم تجار البصرة، ولعل أبرزهم الحاج عبدالحسين جيتا، والضلع الآخر هم المتدينون.
في 27/ 1/ 1969م، تمَّ إعدام الحاج عبد الحسين جيتا، في حدث أقل ما يُمكن وصفه أنه مسرحية ابتكرها النظام البعثي لتصفية من يرى فيهم مركزية لجماعة أو مذهب غير متفق معه، هذا في جانب، وفي جانب آخر العمل على صناعة نصر وهمي للبعثيين تحت شعار محاربة الجواسيس!!!!
في الواقع ان اعدام الحاج جيتا، أتى في ضمن سياسة اقصاء التجار الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي، وهذا ما حصل مع التجار في سنة 1964م، عبر ما يُعرف بسياسة التأميم وتمَّ من خلالها مصادرة أموال العديد من التجار، من ثمّ تكررت حادثة أُخرى لكن بعد إعدام الحاج جيتا، وهي حادثة مصادرة أموال المئات من التجار الشيعة في نيسان 1980م، تحت عنوان (التبعية!!) ويمكن الرجوع إلى تفاصيل الحادثتين، من خلال مقالين للكاتب، تمَّ نشرهما في موقع المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف.
وعلى الرغم أنّ الحاج عبد الحسين جيتا، لم يكتب عنه شيءٌ سوى كتابات عابرة بعضها غير دقيق، وأُخرى موضوعها غير مكتمل، وفضلاً عن المكتوب، انتشرت مقاطع فيديو، هي الأخرى، حملت في ضمنها معلومات غير دقيقة أيضاً، لكن في هذا السياق يستثنى الحديث عن دراسة الدكتور علي القريشي التي كانت مصدراً رئيساً في كتابة هذا المقال، لأنّها دراسة لا يمكن لأي باحث مهتم بالحاج جيتا، أو الحركة الاسلامية في البصرة بشكل خاص، والشأن البصري بشكل عام، أن يتجاوزها، فدراسته التي هي عبارة عن كتاب تكون من 369 صفحة، اعتمد فيه المؤلف منهجية تكاملية للكتابة عن هكذا موضوعات من خلال ذاكرة المعاصرين للحاج جيتا سواء من الأقارب والأصدقاء أم المعارف أولاً، مع تأكيد القول أن هذه المعلومات لم تأخذ كمسلمات، إنّما خضعت للتدقيق والمقارنة بينها، فضلاً عن ذلك أنَّ المؤلف هو من الشخصيات المعاصرة للحاج جيتا، وثانياً: رجع المؤلف إلى بعض الكتب والمقالات واللقاءات المتلفزة، محاولاً جمع شتات كل ما ذُكر في كتاب عنونه بـ (لماذا أُعدم الحاج جيتا شهيد البصرة الأول) وعنوان الكتاب تضمن سؤالاً يدور في ذهن الباحث وأذهان كل من عرف أو سمع بالحاج جيتا.
لقد شكلت البصرة مركزاً مهما للتجار والمستثمرين، وكان من هؤلاء التجار الحاج عبد الحسين جيتا، فالبصرة كان فيها أبرز الموانئ في المنطقة ووجهة لتجارة الهند، وبوابة لحركة الهنود الراغبين بزيارة العتبات المقدسة، التي حرصت جماعة الخوجة التي ينتمي إليها الحاج جيتا على رعايتهم. إن لحظة وصول الحاج جيتا محل خلاف بعضهم يذكر أنّه قدم البصرة بعد الحرب العالمية الأولى، وبعضهم يرجح قدومه في ثلاثينيات القرن العشرين، ورأي يقول بقدومه بعد الحرب العالمية الثانية.
ويمكن القول أنَّ أبرز ما مثل حضوره في البصرة هي نشاطاته الدينية والاجتماعية التي هي امتداد لنشاطات وسلوك تجار الخوجة في الهند وباكستان وحاليا أيضاً في أوربا وأميركا وأفريقيا، ومن أبرز أعماله في البصرة:
-في المجال الديني:
- إقامة مجالس العزاء الحسيني والمحاضرات الرمضانية بحضور كبار خطباء المنبر الحسيني، وتأسيس المواكب الحسينية، وتشييد المساجد الكبرى والحسينيات، مثل:
- حسينية في منطقة الداكير، تسمى حالياً بحسينية الغدير، التي كان يقرأ فيها الشيخ الوائلي، ويذكر الدكتور علي القريشي، أن هذه الحسينية قد تعرضت إلى تعسف السلطة البعثية فقد جرى هدمها وتسويتها بالأرض بعد إعدام الحاج جيتا.
- مسجد الفيصلية (الجمهورية) وشيد هذا المسجد مع تأسيس هذه المحلة في مطلع خمسينيات القرن العشرين.
- والحسينية الأولى قد شيدها لأنها قريبة من مركز عمله، اما المسجد فقد شيده بعد زيارته لمحلة الجمهورية حينذاك، وأدرك اهمية وجود مسجد في هذه المحلة.
- جامع القرنة الكبير، الذي بناه أول الأمر الشيخ محمد حسن المظفر بمساحة 80 متراً، من ثمَّ بادر إلى توسعته الحاج جيتا بعد علمه برغبة أهالي القرنة بإعادة بنائه.
- مسجد في الهارثة وآخر في الفاو.
- ولم يقتصر دور الحاج جيتا على بناء المساجد والحسينيات في البصرة فقط، إذ شملت تبرعاته اعادة تشييد التلة الزينبية في كربلاء المقدسة، والمشاركة بأموال طائلة في تعمير مرقدي السيدة زينب والسيدة رقية في سوريا، ومقام رأس الامام الحسين (عليه السلام) في القاهرة.
- وشملت تبرعات الحاج جيتا المساهمة في بناء المدارس في البصرة –مدارس الإمام الصادق عليه السلام-، فضلاً عن المساهمة في التبرع لمشروع جامعة الكوفة الذي رفضه البعثيون.
-في المجال الصحي والاجتماعي:
وفي المجال الصحي والاجتماعي، كانت له تبرعات عديدة، مثل: تجهيز ردهة كاملة خاصة بالأطفال في المستشفى الملكي الذي سمي فيما بعد بالمستشفى الجمهوري، وتقديمه المساعدات النقدية للأرامل والأيتام، والمساهمة في تجهيز موتى الفقراء، وتزويج بعض العزاب الفقراء، حتى أنه كان لديه موظفٌ في شركته لمتابعة مساعدات اليتامى والأرامل.
هذه الأعمال هي التي عرفها القريبون منه، وبالتأكيد هناك أعمال خير أُخرى قام بها، وبقيت غير معروفة وغير مُعلن عنها، ومما يذكر في هذا الخصوص أن عدداً من العوائل الفقيرة التي كانت تصلها رواتب منه بشكل منتظم، وهي لا تعرف مصدرها، قد افتقدت تلك الرواتب فجأة حينما انقطعت عنها بعد اعتقاله من قبل البعثيين عام 1968م، وحين أخذت تلك العوائل تسأل عن أسباب ذلك الانقطاع، أُخبرت بأنَّ الذي كان يُرسل إليهم تلك الرواتب هو الشخص الذي شاهدوه معلقاً في ساحة أُم البروم يوم 27/1/1969م.
إنّ محاربة نظام البعث للتجار الشيعة كان لقناعتهم أنّ هؤلاء هم من يمول الأعمال والفعاليات الدينية، وما يتفق عليه أغلب من اهتم بالكتابة عن الحاج جيتا إنه لم يكن لديه أيَّ نشاطات سياسية، إنما كانت رعايته وبشكل علني للمشاريع الإسلامية ولاسيما إعمار المساجد والحسينيات، وإحياء ذكرى آل البيت عليهم السلام، والمساهمة في الإعمال الخيرية.
وبالعودة إلى المسرحية التي قام بكتابتها وإخراجها وتمثيلها النظام البعثي، فإنَّ بعض ممثليها قد اعترفوا بدورهم الثانوي فيها، مثلاً، في كلمة عضو القيادة القومية صلاح عمر العلي التي ألقاها أمام المحتشدين أسفل مشانق الضحايا في27/1/1969م، وصفهم بأنهم عملاء وجواسيس، لكنه عاد في سنة 2004م، وفي ضمن لقاء عبر قناة الجزيرة، ليقول (بعد كل هالسنين التي مرت علي كنت وبعد أن تكشفت ألاعيب صدام وديكتاتوريته ودمويته، بدأت أراجع كثير من الأفكار، فبدأت افترض أنه كل ما….اعتقل، وكل المؤامرات التي اكتشفت، كانت ملفقة من صدام حسين، وكانت مفبركة من صدام حسين).
وفي لقاء للدكتور علي القريشي مع إحسان وفيق السامرائي القيادي السابق في حزب البعث، ذكر أن قضية 1969م، كانت مسرحية مفتعلة ولا صحة للاتهامات التي وجهت للحاج جيتا وصحبه، وأفاد بأن حكاية جهاز الاتصالات اللاسلكي الذي زعم بأنه قد خُبئ في كنيسة السبتيين في البصرة ما هو إلّا اكذوبة، إذ قال (أنا صعدت بنفسي مع القيادات الحكومية في البصرة إلى أعلى الكنيسة المذكورة، ولم نجد شيئاً).
وفي سياق الحديث عن إعدام الحاج جيتا، كان لعلماء الدين في البصرة، موقفاً رافضاً للحادثة، فقد رفض السيد عبد الحكيم الصافي الحكم الذي صدر بحق الحاج جيتا، وقبلها قد طلب من بعض علماء الدين في البصرة ووجهائها أن يقيموا مسيرة احتجاج أو يقدموا طلباً يلتمسون فيه العدول عن اعدامه، وبعد تنفيذ الإعدام سُئل عن جواز الفرجة على جثث المعدومين، فذكر عدم جواز النظر إلى تلك الجثث، بل لا يجوز الحضور إلى تلك الاحتفالية الفاجرة وهذا ما أعلنه السيد عبد الحكيم الصافي أمام المصلين في المسجد، وكان السيد عبد الحكيم الصافي يردد أمام من حوله(إن ما وجه لجيتا من اتهام كان باطلاً ولا صحة له أبداً)، وكان السيد أمير محمد القزويني، الذي كانت تربطه علاقة قوية بالحاج جيتا، من أبرز من أبدى اعتراضه على اتهامه وعرف عنه إعلانه عن غضبه الشديد على الإعدام.
أما عن موقف المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف حينذاك، والمتمثلة بمرجعية السيد محسن الحكيم، فقد ذُكر موقفها في عدة كتابات، وتمثل بأثارة الأمر مع أحمد حسن البكر الذي زار المرجع في منزله بالكوفة، وقد طمأن البكر خلالها السيد بالقول: (أن القضية بسيطة والأمر مجرد تحقيق وسيفرج عن جيتا قريباً)، كذلك كان للسيد محسن الحكيم موقف آخر مع الترويج لتهمة الجاسوسية حينما زاره وفد حكومي في مقر إقامته في بغداد، وقال لهم السيد حينها مؤنباً (كيف أن الناس تتهم بالسهولة بالجاسوسية؟)
أما عن أسرة الحاج جيتا والموقف منها بعد إعدامه، فقد تعرضت إلى التنكيل والتشهير ومن هول الصدمة وفي يوم إعدامه توفيت بنته ثريا بعد ساعة أو ساعتين، حينما شاهدت جثة والدها معلقة في ساحة أم البروم في البصرة، كما يذكر ذلك الدكتور علي القريشي نقلاً عن عبد الحميد شريف، وتم ومصادرة أمواله، إذ تم مصادرة جميع أملاكه، سواء أكانت اراض زراعية وبساتين وعقارات أم محال تجارية ومنازل ومكابس تمور ومخازن، وقد باعت الحكومة بعضها في المزادات واستولى على بعضها بعثيون وغيرهم.
وعلى وفق سياسة القسوة والحقد التي اعتمدها البعثيون، فإنهم لم يتركوا الحاج جيتا حتى بعد مماته، فقد عمدوا الى تدنيس قبره وكتبوا عليه بالخط الاحمر هذا قبر الجاسوس !، ولم يرض هذا الفعل بعض المؤمنين في النجف فقاموا بمسح هذه العبارة، إلّا أن البعثيين عادوا مرة أُخرى وكتبوا العبارة نفسها، وبعد فترة هدموا القبر وسووه مع الارض، وبعد سقوط نظام البعث في سنة 2003م، جاء بعض افراد اسرته وعملوا على إعادة بنائه.
ختاماً، في ذكرى استشهاد الحاج عبد الحسين جيتا يوم 27/1/1969م، نستذكر قامة بصرية عملت للحركة الاسلامية بإخلاص، أقول عنه قامة بصرية، لأن ما يميز البصريون هو الطيبة والعطاء، والحاج جيتا من أبرز من تميز بذلك، وإن كتاب لماذا اعدم الحاج جيتا، لم يكن كتاباً عادياً، بل أنه مثل مشروعاً عمل عليه صاحبه لسنوات طويلة وجاء اكتماله نتيجة بحث بين الكتب والمقالات واللقاءات التلفزيونية والإذاعية، والمواقع الالكترونية، فقد التقى الباحث وسافر وتواصل مع عدة شخصيات في العراق وخارجه، وحينما نستذكر الحاج جيتا، فأفضل معلومة موثقة عنه بالتأكيد سيكون مصدرها هذا الكتاب.