أيدولوجيَّة الإجرامِ فَي فَكرِ البَعثِ
أ.د. حُسّين الزّياديّ
يبدو أنَّ الدراساتِ والتحليلاتِ الّتي أُجرِيَت حولَ أيدولوجيةِ البعثِ، لمْ تستطع الإجابة بشَكلٍ مُتكامِلٍ على سؤالٍ جَوهريٍّ وهو: ما مُكونات أيدولوجية البعث؟ وقد كتبَ المؤرخونَ، والسِّياسيونَ، وعلماءُ الاجتماعِ، والمختصونَ في مجال فلسفة السِّياسةِ الكثيرَ عن أيدولوجيةِ البعثِ، ولكن للأسف لم يتطرقوا في تحليلاتهم للظاهرة إلَّا بشكلها الظَّاهريِّ من دونِ الغوص في أعماقها، وتحليلِ جنباتِها العُنصرِيَّةِ والإجرامِيَّةِ، لأنَّهم بدل أن ينحوا بأبحاثهم منحى يُؤدي إلى طريقةٍ تحليليَّةٍ- تفكيكيَّةٍ، حاولوا وضع إطارٍ سَطحيٍّ عن عقيدةٍ قوميةٍ تناضل ضد الإمبريالية وتسعى إلى الوحدةِ، وقاموا بعرضِ هذهِ الأيدولوجية بوصفها حركةٍ قوميَّةٍ عاديَّةٍ تنبع من ظروف معقدة، تبحث عن هُوية قَوميَّةٍ.
إنَّ حُكومةَ البعث في طبيعتها ومبادئها الَّتي تستندُ عليها هِيَ حكومةٌ شموليةٌ، وهي انعكاس لمنظومةٍ من الأفكارِ الَّتي تتطابقُ إلى حدٍّ بعيدٍ مع الفاشيةِ، وهذا التَّشابهُ يجعلنا نعتقد بشدة أنَّ أيدولوجيةَ البعث هي محاولة لإعادة إحياءِ وتجديدِ الفاشيةِ بِزِيٍّ قوميٍّ على أساسِ الفكرِ العُروبيِّ وعبادةِ القائد الاوحدِ، وهذا الشيءُ تمَّ اثباتُهُ منْ خِلالِ التَّطبيقِ العَمليِّ لسلوكياتِ البعثِ بعد تسلمهِ الحُكمَ.
والتأثرُ بالفاشيةِ لم يأتِ من فراغٍ لأنَّ مؤسسَ الحزبِ قد تَشَبَّعَ بدروس التأريخ الأُوربي بينَ أعوام 1918م – 1932م، عندما كان في أُوربا، وفي سنة 1932م عاد إلى سوريا مُعَبأً بالفكرِ الفاشيِّ، ليؤسسَ مع آخرينَ (حزب البعث)، حيث كان لعفلقَ دور كبير في نشر الفكر القوميِّ المتَطرِّفِ، ليكون بديلاً من الإسلامِ، لأنَّ الأخيرَ يقوم على مبدأِ إنَّ أكرَمَكُم عند اللهِ أتقاكم، وهو أمرٌ لا يتماشى مع الجذور الدينية لمؤسس حزب البعث، لذلك تَمَّ البحثُ عن البديل فوجدوا ضالتَهُم في القومِيَّةِ، وبهذا يمكن القول إنَّ معتقداتِ هتلرَ السِّياسيَّةِ قد تَجَسَّدتْ في العراقِ المُعاصرِ، فَتَحَوَّلَ مَفهُومُ الشَّعبِ إلى كيانٍ يدافعُ عنه قائدٌ أوحدُ.
وتأسيساً على ما تقدم فإنَّ الأيدولوجيةَ المتطرفةَ التي نقلها مؤسسُ البعثِ كانت بحاجة ماسةٍ إلى بيئةٍ متطرفةٍ أيضًا لكي تنمو وتزدهر وتعطي ثمارها، وإلَّا فأنَّ مصيرَها الفشلُ، فكانت القبلية والبداوةُ التي تَجَسَّدَت في خِصالِ صدام وتَصرُفاتهِ، وهو الشخص الذي نقل الفكرَ الإجراميِّ النَظريِّ المتطرف لميشيلَ عفلق إلى برنامجِ عملٍ على أرض Aالواقعِ فطَبَّقَهُ، وأبدعَ فيه، وزاد عليه؛ فكان خلاصةَ الشَّرِ وعُصارةَ الإجرامِ، فهو بحقٍّ الابن البَارُّ للفلسفةِ البعثيةِ المُنحرفةِ، وهو الثمرة النقية لأيدولوجية البعث المشوهة، وهو الشخص الذي اتخذ من البعث وسيلةً لتحقيق دوافعه الإجرامِيَّةِ ونوازعهِ الشريرةِ، فأحدثَ انسجامًا بينَ هيكل القبيلة وقوانينها وبين الدولة، واستطاع أنْ يُتَرجِمَ فلسفةَ الإجرامِ إلى واقعٍ عمليٍّ ملموسٍ، فأبدعَ في التَّطبيقِ وزاد على الترجمة، وساعدَتهُ في ذلك تربيتُه البدويّةُ الّتي أطلق عليها ابنُ خلدونَ (بالبادية) تميزا لها عن(الحضارة)، وبقيتْ سِمَةُ البداوةِ ملازمةً للبعثِ وأزلامهِ حتى أواخرَ ايامهم، فالبعث لم يكن له بأي شكل من الأشكال جذور في المدينة، وحتى دخول البعث إلى المجتمعِ المَدنيِّ كان على شكل عصابة (انقلبت على الحكم، وهكذا ظلوا)، ولا يخفى على المتتبع أنَّ مطالبَ البعث لتحقيق الوحدة القومية تتكأ على فكرة العودة إلى الماضي وتهجين القومية مع الاشتراكية بشكل يطابق النموذج النازي تماما ليكون هناك قائداً أوحد وفكرا أوحد، لأنَّ مؤسس الحزب كان واقعاً تحت التأثير الكبير للقومية الألمانية وفكر الفيلسوف (فيخته) الّذي يُعَدُّ المنظرَ الحقيقيَّ للفكر النازيِّ، كما أنَّ الفكرَ القوميَّ للبعث يُمَجِّدُ القوميَّةَ العربيَّةَ ويرتفع بها ويميزها عن غيرها ويعدها بديلاً من الإسلام، بل ينظر إلى الاخير على أنَّهُ عاملُ تفرقةٍ لذلك سعى بكل جهده إلى إزاحتِهِ أو على الأقل إبعاده عن السِّياسةِ.
إنَّ الثقافةَ البدويَّةَ التي حكمت العراق كانت تُثَمّنُ عاليا قيم العنف و تنظر إلى القَتْلِ والنهب نظرةً إيجابيَّةً، وتَصِفُ القاتل بصفة الرجولة، وهذا يمكن أنْ يُلحظَ بسهولةٍ من أحاديثِ هَرمِ السُّلطةِ البعثيَّةِ، وتعابيره، وأمثاله وقصصه، فتجده ينجذب إلى بيئته البدوية بشكل عفوي فتراه يحمل السلاح ويطلق النار في الهواء ليشبع الدوافع الإجرامية المتجذرة في دواخله، وتتضح العدوانية والدموية بشكلٍ أكثرَ من أناشيدِ البعث وأهازيجهِ، فهي جميعاً تتباهي بالقتل والنهب؛ لأنَّ أصحابها جاؤوا من بيئة تُمَجِّدُ القتلَ، والثأرَ، والسرقةَ؛ بل تذهب إلى تسميةِ السَّارِقِ بـ(دَوّاسِ اللَّيل).