banarlogo

أسالِيبُ التَّعذِيبِ والجَريمَة البَعثِيةِ جَريمةُ التَّعذِيبِ بالمِياهِ الآسنةِ ح19

أسالِيبُ التَّعذِيبِ والجَريمَة البَعثِيةِ

جَريمةُ التَّعذِيبِ بالمِياهِ الآسنةِ ح19

الأستاذ المساعد الدكتور

رائد عبيس

أعادتْ هذهِ الجريمةُ ذاكرتي إلى قِصةٍ سمعتُها في حِقبةِ الثَّمانينياتِ من القَرنِ الماضِي، مِنْ رَجُلٍ مرَّ بالتجربةِ نفسِها، وكانَ يروي مشاهدَ التَّعذيبِ بالمياه الآسنةِ، والبِركِ، الَّتي كانت تُمارس صباحاً ومساءً، لمَن لم يَكُنْ سَجيناً أو موقوفاً، بل كان محتجزاً في معسكر التدريبِ العسكري، ولديهِ مشاكلَ لديه من مثلِ تأخرهِ عنِ الالتحاقِ بالجيشِ، أو تَخَلُفِه عن التَّدريبِ، وما شابه من تلكَ الأُمور.

 بدايةُ القِصةِ كانتْ عَنْ موقفِ هذا الرَّجلِ من تلكَ العَمليةِ بِحقِّ زُملائه في الجيشِ، والمَوقُوفينَ، والسجناءِ، إذ كانَ يُشاهدُ الأوامرَ الّتي تَصدرُ لهم في التنفيذ بنزع مَلابِسِهِم والنُزولِ في هذهِ البِركِ في تَوقِيتاتٍ تكونُ شديدةً عليهم، مثلاً عند الصباحِ الباكرِ في موسمِ الشِّتاءِ، أو في حرِّ الصَّيفِ اللاهبِ، أو عِندَ نُزُولِ الأمطارِ…وهكذا. وبَينَما هُوَ يُشاهدُ مَنْ سَبَقَهُ إلى هذا النَوعِ مِنَ التَّعذِيبِ، بدأ يُفَكّرُ بإيجادِ الأعذارِ والحِيَلِ على المُنَفِّذِينَ لهذا النوعِ مِنَ التَّعذيبِ من الضُباطِ ونُوابِهم، كالتَّظاهُرِ بالمَرضِ أو بارتداءِ نظارةٍ سوداءَ يتظاهرُ بها بالعمى، آملاً أنْ يَعفُوا عَنْهُ مِنْ هذا التَّعذيبِ.

 لقد كانَ يروي هذا الموقفَ ضاحكاً على مَنْ صدَّقَ حيلته وأعفاه مِن التعذيبِ. بينَما كانَ يَتَألمُ على زملائهِ الَّذينَ يَشتَدُّ بِهِمُ العذابُ وتَبعاتِهِ عليهُم، حتى وصلَ بِهِمُ الأمر حدَّ الموتِ.

أتذكر جيداً سؤالي لنفسي عند سَماعي هذهِ القصةَ من هذا الرَّجُلِ، وقلتُ لنفسي: لماذا يكذبُ هذا الرَّجلُ وَيَتَحايلُ؟ ولَمْ أسالْ عن مبرراتِ ذلكَ الكَذبِ والتَّحايلِ الَّذي قامَ بِهِ، فهو لكي يَنجو من ذلك التعذيب وقسوته!

قانونياً كما ذكرنا في مقالات سابقة، التعذيبُ ليسَ لَدَيهِ تشريعٌ يُسَوِّغُ اللجوءَ إليهِ في التَّنكيل بالضحية أيًّا كانت صِفَتُها، سواء كانت عسكريةً، أو مَدنيةً، أو أمنيةً، أو حِزبيةً، أو أيَّ تَوصيفٍ آخرَ، وهذا أمرٌ مفروغٌ مِنهُ. إلّا أنَّ ما لمْ يُفرغْ منه بعدُ هو التَّحرِّي، والبحث، والتحليل، والدراسة، لنزوعِ البعثِ المُجرمِ لهذهِ الوسائلِ التَّعذيبيةِ السادية، والمجنونة، على أبناء شعبه!، وقلنا هنا بعثية بقصدِ الإشارة إلى تاريخ الحزب الذي لجأ لهذه الطرق من العذاب منذ نشأته وتنامي نفوذه في السلطة، وصولاً إلى بعثيةِ صدامَ التَّعذيبيةِ الَّتي طالت حتى البعثيينَ أنفُسِهِم.

 لقدْ طالت ْجريمةُ التَّعذيبِ البعثيَّةِ بالمياهِ الآسنةِ شرائحَ مجتمعيَّةٍ كبيرةٍ ومُختَلِفةٍ، منَ الَّذينَ اعتُقِلوا، واختِيرَت لهم هذه العقوبةُ المهينةُ.

 إنَّ كثيرًا من السياسيينَ قدْ عُذِّبُوا بهذهِ الطريقةِ، وتَمَّ رَميُهُم في بِركٍ آسنةٍ من المياهِ المُلَوَّثةِ طَبيعياً، أو تَمَّ تَلوِيثُهَا عَمداً بإلقاءِ القاذوراتِ، ومياهِ الصَّرفِ الصحيِّ، والحيواناتِ المَيِّتَةِ المُتَفَسِّخَةِ، مثل: الكلاب، القطط. فيختلطُ بِها كلُّ ذلكَ، ويَتِمُّ إدخالُ الضَّحيةِ فيها، أمَّا عُرياناً تَماماً، أو نِصفِيّاً، مع تقييدِ الأيدي، والأرجلِ فضلاً عن إجبارِ المعذب – منَ السُّجناءِ أو المُعتقلين، أو المَحبوسينَ، أو حتى المحتجزينَ على ذِمَّةِ التَّحقيقِ – إلى غَطْسِ رؤوسِهِمُ في تلكَ البِرَكِ لمُدَدٍ طَويلةٍ، حتى يختنقَ الضَّحيةُ، ويَتقيأ، وَيَشعُرَ بالانهيارِ مِن الرائحةِ الكريهةِ، ومِنْ طَعمِ المِياهِ، ومن كراهةِ مَنظَرِها، وبشاعةِ طريقتها، فهذهِ البِركُ مرةً تكونُ حارةً وأُخرى باردة بحَسبِ الطَّقسِ، أو بتدخلٍ مِنَ الجلادينَ لتهيئتها لِمَن يُرادُ تَعذيبَهُ بها. وكثيراً ما كان ضحايا هذا التعذيب يُلقى بهم بهذه البرك الآسنة لمدة طويلة، مثلاً: يوم أو يومين! وحتى المرضى منهم! ذكر جبار آل مهودر في روايته (القضبان لا تصنع سجناً)، تعذيبَ أحدِ المُتَّهمينَ من الأطفالِ بهذهِ الطريقةِ، وهو مريضٌ راقدٌ في المستشفى، كان قد نقله الأمنيُّ المكلفُ بحراستهِ في المستشفى إلى حديقة المستشفى؛ لتعذيبهِ بالماءِ والمياه الملوثة؛ لأنَّهُ أنزعج منه ومن مرافقته!!

صورةٌ توضيحيةٌ لهذهِ الجريمةِ.