إشكالياتُ الحربِ ضِدَّ الإرهابِ
بينَ الَّنجاحِ التكتيكيِّ والَّنصرِ الحاسِمِ
اللواء الركن المتقاعد
الدكتور عماد علّو
مدير مركز الاعتماد للدراسات الأمنية والاستراتيجية
الإشكالية:
على الرغم من مرور ما يقارب العشرين عامًا على شروع المجتمع الدولي بعقد التحالفات ووضع الاستراتيجيات للحرب ضد الإرهاب Terrorism، إلَّا أنَّ الادعاءَ بتحقيقِ النَّصرِ عليه لايزالُ موضعَ شكٍّ كبيرٍ! فعلى الرغم من النجاحات التكتيكية الَّتي حققتها العملياتُ العسكريةُ في إحباط الهجمات وإلقاء القبض على الإرهابيين أو قتلهم، إلَّا أنَّ مساعيَ التحالفِ الدَّولي للحرب ضد الإرهاب International Coalition Against Terrorism (ICAT)، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وجهودِ الأجهزةِ الأمنيةِ والقوات المسلحة للدول التي ابتليت بآفة الارهاب على مدى العقدين الماضيين كلُّ ذلك لم يحققِ النتائجِ المرجوةِ، من منظور استراتيجي، بل أدت إلى تصاعدِ التَّطرفِ العنيفِ والكراهيةِ على أساس دينيٍّ، ومذهبيٍّ، وعرقيٍّ بين الشعوب وتفاقم الإسلاموفوبيا Islamophobia في المجتمعات الغربية، فضلا عن الكُلفِ المادية، والمالية، والتضحيات والخسائر البشرية في صفوف المدنيين.
واشنطن… استراتيجيات متغيرة:
لقدْ جَمعَ التَّحالفُ الدوليُّ للحرب ضد الإرهابِ (ICAT)، بعضَ الشراكات الغريبة والأجندات المختلطة والمتعارضة بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الالتزام، فكانت الاستراتيجيات تتغير بتغير الحكومات والإدارات والقيادات منذ التركيز الهائل على مكافحة الإرهاب في إدارة جورج بوش الابن بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر2001 مرورًا بإدارة الرئيس باراك أوباما والرئيس دونالد ترامب وصولًا إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الّذي حاولت إدارتَهُ إعادة تحديد مفهوم التصدي للإرهاب والتطرف العنيف. والحرص في الوقت نفسه على توخي الحذر من التهديدات المستمرة التي تطرحها الجماعات الإرهابية الدولية على غرار تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، والجماعات الَّتي يُلهِمُها هذان التنظيمان. كلُّ ذلك عَكَسَ تَأثرَ استراتيجيات الحرب ضد الإرهاب بعوامل عدة منها صعود الصين وروسيا (قبل غزو أوكرانيا)، ومروراً بالتَّغَيُّر المناخي، ووصولًا إلى حاجات البنية التحتية وقضايا الصحة العامة وغيرها محلياً، وصولًا إلى الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وتأثير مواقف حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والمنظمات الدولية مثل “حلف الناتو” من الحرب على الإرهاب، في سياق تأكيد التزام الولايات المتحدة بتعددية الأطراف واستراتيجية تقاسم الأعباء، والتخطيط لكيفية التعامل بشكل مشترك مع تداعيات تراجع حضورها على الساحة الدولية لمكافحة الإرهاب.
أوروبا.. الناتو في مواجهة الإرهاب:
لطالما أعلنت الدول الأُوربية التزامها ودعمها لجهود التحالف العالمي ضد داعش، وما جرى في العقديْن الماضيين يُمَكِّنُنا من بناءِ تَصَوِّرٍ عن ملامحِ استراتيجية الدول الاوربية وحلف شمال الأطلسي الناتو NATO بالخصوص الذي تشكل الدول الاوربية سواده الأعظم وكما يأتي: –
- إنَّ مكافحةَ الإرهابِ هِيَ في الأساسِ مسؤوليةٌ وطنيةٌ ولا تزالُ كذلك. والفكرةُ هي أنَّ الأمر متروك للدول المنضوية في حلف شمال الأطلسي الناتو NATO أولاً للتعامل مع التهديدات الإرهابية.
- إنَّ الطبيعةَ الشاملةَ لمسألة الإرهاب يَجِبُ التعاملُ معها في إطار مهام “الناتوNATO” الثلاث الرئيسة المحددة في المفهوم الاستراتيجي الأخير الذي يعود إلى عام 2010م، وهي: الدفاع الجماعي، وإدارة الأزمات، والتعاون الأمني.
- إنَّ مساهمةَ “الناتوNATO” في جهود ومساعي المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب في الحالات التي يتمتع فيها بالخبرة وحيث يمكنه العمل بالتعاون مع الشركاء الدوليين (الدول أو المنظمات الدولية الأُخرى.
- إنَّ استراتيجية “الناتو” في مكافحة الإرهاب كحلف عسكري ينبغي أن ترتكز على ثلاث دعائم: الحذر والانتباه، والقدرات، والمشاركة، والانخراط.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الدول الأُوربية شَرَعَتْ بعد هزيمة داعش في العراق وسوريا في اتِّخاذِ إجراءاتٍ لمواجهة التحدي الذي يشكله تنظيم داعش في أُوربا وأفريقيا من خلال تبنيها للإجراءاتِ الآتيةِ:
- منعِ الإرهابيين من تَمويلِ أنفُسِهم من خلالِ نهبِ الملكيةِ الثقافيةِ.
- تبادلُ المعلوماتِ الماليةِ المكتسبةِ في سياقِ أنشطةِ الاستغلالِ الفني/أدلة ساحة المعركة، مع الشركاء الدوليين المعنيين (“الإنتربول”، و”فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية”، و”مجموعة إيغمونت Egmont Group ” وهي هيئة موحدة تتألف من 166 وحدة استخبارات مالية (FIUs لدعم الجهود الوطنية والدولية لمكافحة تمويل الإرهاب).
- نَشرُ وتًمركُز قواتٍ من الاتحادِ الأوربيِّ وحلِف الناتو في أفريقيا لمواجهة استراتيجية تنظيم داعش الجديدة في نقل المعركة إلى منطقة الساحل الغربي الأفريقي، والصحراء الكبرى، ووسط أفريقيا.
استراتيجية المواجهة في افريقيا:
يَتَمَثَّلُ المسارُ الاستراتيجي لحلف «الناتو» في شمال أفريقيا، والشرق الأوسط، ومنطقة الساحل، وأفريقيا جنوب الصحراء، في عد دٍ من المهام الرئيسة من خلال تحديد التهديد، وتعزيز وتطوير التعاون بين الدول الأفريقية ومقر حلف الناتو في بروكسل لبناء هياكل عسكرية قادرة على مراقبة الوقائع والتطورات فيما يتعلق بتطور التهديد الإرهابي في أفريقيا (لا سيما في منطقة الساحل)، حيث يركز “الناتو” جهوده في هذه المرحلة على تحسين قدرات شركائه في المنطقة، ويشمل ذلك دعم الجهود ذات الصلة التي يبذلها “الاتحاد الأفريقي” و”الأمم المتحدة”.
استراتيجية المواجهة في العراق وسوريا:
يُرَكِّزُ حلفُ شمالِ الأطلسيِّ “الناتوNATO” جهوده لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا، فينتمي “الناتو” إلى “التحالف العالمي ضد تنظيم «داعش»”. ويُعَدُّ التحالفُ الدوليُّ الجهةَ الفاعلة الدولية الرئيسةَ في هذا المجال، ويرى الحلفُ أنَّ دوره كمساهم في عمل التحالف، وفي الغالب من خلال “بعثة «الناتو» في العراق” التركيَز على تدريب قوات الأمن العراقية على المستوييْن التكتيكي والمؤسسي، إلَّا أنَّ التهديدَ الَّذي ظهرَ مُؤخرا، والمتمثل بالطائرات المسيرة بدون طيار دفعت “الناتوNATO” إلى تعزيز الشراكة مع “المكتب المشترك للتصدي لمنظومات الطائرات بدون طيار” في وزارة الدفاع الأمريكية كما يتعاون “الناتوNATO” بشكل حثيث مع “الأمم المتحدة” و”الإنتربول” ومؤسسات “الاتحاد الأوروبي” و”المنظمة الأوروبية لسلامة الملاحة الجوية”، في مجال التصدي لمنظومات الطائرات بدون طيار، وذلك من خلال إجراء البحوث والدراسات لبناء وتطوير الإجراءات المضادة الأكثر فعالية.
استنتاجات ختامية:
بعدَ سنواتٍ من هزيمةِ تنظيمِ داعشَ في العراق وسوريا ومقتلِ أبرزِ قياداتهِ السلفية الجهادية من أُسامة بن لادن ومرورًا بمقتل أبو عمر البغدادي، وأبو بكر البغدادي، وعبد الله قرداش، وانتهاء بأيمن الظواهري، وسقوط خلافة داعش المزعومة في الموصل والباغوز، فان تقييم الحرب على الإرهاب من منظور “الانتصار أو الهزيمة”، لا يُوصِلُنا إلى نتيجة واضحة. فتنظيم داعش يبدو أنه يزدهر في ظل الصراعات السياسية داخل العراق وما زال يفعل ذلك، حيث يستغل داعش الفضاء والفراغ السكاني في سلاسل جبال حمرين، ومكحول، وصحراء البادية الغربية، مستخدما” أساليب حرب العصابات وحفر العديد من الأنفاق للاختباء فيها، معتمدًا على ما يُوَفَّرُ له من: المال، الأيديولوجيا، والقيادات العسكرية ذات الخبرة بالعمليات الإرهابية وحرب العصابات. وتدل المؤشرات الأخيرة على أن التنظيم يزداد قوة مرة أخرى، ويتعلم من أخطائه، ويعود بتكتيكات مختلفةٍ.
في الوقت نفسه زادَ بشكل كبير عدد المقاتلين السلفيين الجهاديين في جميع أنحاء العالم، بينما ثَبتَ أنّ المرجعيات الدينية (الإسلامية، والمسيحية، واليهودية) في مختلف انحاء العالم فشلت في معركة الأفكار؛ الأمر الذي يمثل توسُّعًا في التأثير العالمي للحركة الجهادية، وزيادةً في القوة النسبية للجماعات المحلية المنضويةِ إليها، مما قد يشكل علامة تحذيرٍ لاستمرار التهديدِ الإرهابي في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا.
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فإنَّ العديدَ من القادة السياسيين في الغرب باتوا يتجاهلون التهديدات السلفية الجهادية، مما أدى إلى ردود غير متناسبة مكّنت الجماعات المسلّحة في النهاية من جرفِ أتباعٍ جُددٍ نحو التطرّف وتجنيدهم.
إنَّ فشلَ الفرنسيين في عملياتهم العسكرية وانسحابهم من منطقة الساحل الغربي في افريقيا، وكذلك إعادة تموضع القوات الأمريكية في العراق وسوريا، وترقيق الوجود العسكري الروسي في سوريا، كلُّ ذلك هوَ مؤشرات وأدلة على أنَّنا ينبغي أنْ نفهمَ أنَّ مكافحة الإرهاب باتت جهدًا مستمرًا وليست حربًا في مؤشر يدُلُّ على أنَّ ما تحققَ في الحرب على الإرهاب كانَ نجاحًا تكتيكيًّا وليس نصرًا حاسمًا.