أساليب التعذيب والجريمة البعثية جريمة التجويع ح13

أساليبُ التعذيبِ والجريمةِ البعثيةِ

 

جريمة التجويع ح 13

 

الأستاذ المساعد الدكتور رائد عبيس

يذكرُ عن أحدِ المعتقلين قوله لأحد زملائه في السجن بعد أن أظهرَ دهشته من ابتكار حزب البعث وسائل التعذيب بحقهم، قال له: (كلّ شيء ممكن أن يكون وسيلة تعذيب، حتى الحب!) فما بالك بمن نهجوه نهجاً واتخذوه وسيلةً، وأسلوباً في الإيذاء والعدوان والتدمير النفسي والبدني معاً، ذلك ما كان سلوكاً دائماً عند سجّاني ومجرمي البعث، وهم لا يدخرون قوة في إيذاء السجناء وتعذيبهم بالطرق التي يشتهونها.

كان واحدا من أبرزِ هذه الطرق والأساليب هو التجويع؛ الذي أطلق العنان فيه للسجانين وإدارة السجون، كيف ما يشاؤون، ولهم ما ينال إعجاب السلطة فيهم!

كانت هذه الأفعال التي يرتكبها السجانون وإدارات السجن تصدر بشكل مواقف سياسية اتجاه النزلاء، فمثلاً كانوا يسمعوهم عبارة تدل على ذلك: (هذا حال من يعارض صدام) أو (هذا حال من يعارض الحزب) أو (هذا حال الخونة) … وهكذا بعبارات شتى.

يتضح أن بداية أسلوب التعامل مع النزلاء يصدر على وفق مواقف سياسية لا قانونية ونقصد بالقانونية هنا أن لكل سجن قانونا، يمنح على أساسها المسجون الحق في كثير من الحقوق التي أقرتها له القوانين، مثل: حق العلاج، وحق الطعام، وحق الحركة، وحق النشاط، وحق الكلام، وحق الاستحمام، وحق الاتصال بالأقارب والأهل، وحق التهوية والتشمس، وحق الحفاظ على السلامة، وحق المطالعة، والقراءة، والرياضة.

وهكذا والتي نصّت عليها كثير من القوانين في داخل العراق وخارجه.

مثل: قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين لسنة 1955.

واتفاقية الأمم المتحدة بِشأن الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وقانون اصلاح النزلاء والمودعين العراقي رقم 104 لسنة 1981 الملغى وقانون رعاية الأحداث العراقي رقم 76 لسنة 1983 المعدل، وقانون إصلاح النزلاء والمودعين العراقي رقم 14 لسنة 2018 كل هذه القوانين التي ذكرناها وغيرها، تضمنت الحق الأدنى من المعاملة الإنسانية للسجناء، الا أن حزب البعث، قد صادر جميع هذه الحقوق، أو سلب منها ما يحفظ كرامة السجناء، وأبقى على ما يريده منها فقط، فقد نال السجناء عذاب كبير جداً فاق التصورات البشرية السليمة.

وإطعام السجناء كان أحد هذه الحقوق المصادرة نوعاً، وكماً، وتوقيتاً، فكمية الطعام المقدم وحدها لا تكفي للحفاظ على سلامة النزيل، ولا التفاوت في وقت تقديمها فما بالك بقطعها لأيام، أو لساعات طويلة جداً، أو نقصان واحد منها، فتقدم وجبتين من الطعام بدل من ثلاث وجبات، فقد أصبحت لدى السجناء متلازمة الطعام كأنها نظرية بافلوف، من أصوات المفاتيح! ومن أصوات الأواني! ومن أصوات السجانين! ومن رائحة الطعام، ومن وجود مسؤول الطعام والمطبخ! وهكذا، وكان مع هذه المتلازمة أنين من الجوع، وسيلان للعاب، وأمل بالشبع، وخيال بشكله، ولونه، وطعمه! ولا يخفى أكثر هؤلاء السجناء الجياع فرحهم ومداعباتهم مع بعضم بعض، بل وصل بهم الحال وبمن يملك لغة الشعر قوله، بما يتعرضون له من جوع، أو بما تنتابهم من فرحة عند الاتيان بالطعام، وكأنهم اختزل همهم بما يملأ بطونهم، ويسد جوعتهم، ويرد شهوتهم فيه، عسى أن يستعيدوا قواهم المنهكة، وروحهم الولهة للاستقرار بالشبع، وعندما يظفرون بوجبة طعام، تأخذهم الشراهة لتناول ذات الطعام الذي تعودوا على أكلها يومياً تقريباً، ولكن الجوع يدفعهم للأكل بهذه الطريقة، حتى تكتمل بلعق الأصابع، أو تمني المزيد مما تناولوه أما من يبقى جائعاً و لعلّ أغلبهم هكذا، يبقون في حالة اجترار لأفكاكهم ساخرين مما يمنون النفس فيه.

كانت أساليب التعذيب النفسي دائمة، ومتزامنة، ومترافقة مع التعذيب المتعمد بتجويع النزلاء، فيفاوت السجانون وجبات الطعام، ولا يلتزمون بمواعيد تقديمها لتدمير نفسية النزلاء، لا سيما عند من لا يقاوم الجوع، ومن لديه علاج، أو يتجوع أكثر من اللازم طيلة اليوم، فإذا كانت وجبة الفطور عند السادسة صباحاً، فإن وجبة الغداء تتأخر حتى الرابعة عصراً، أما العشاء أما يتقدم أو يتأخر بحسب الحالة التي يُراد إحداثها مع السجناء والإيذاء.

هذا الأمر، يحدث في الأيام الاعتيادية من السنة، أما في حالة شهر رمضان مثلاً، فتزداد الحالة شدة بين السجناء، بالإضافة إلى الصيام، بالعادة يكون الطعام الذي يجلب لهم لا يلبي حاجتهم الجسمانية، قليل القيمة الغذائية من حيث الكمية والنوعية ولا يتناسب مع أعداد النزلاء أحياناً، وكم من حالة عراك صارت داخل السجون بسبب وجبات الطعام؟ وكم من نزيل كان يشد بطنه بقماش من شدة الجوع؟ وكم من نزيل تعرضت بطنه لإمساك شديد بسبب قلة الأكل؟ وكم من نزيل تعرض لإسهال شديد بعد أيام من حرمان وجوع وتناول بعدها أكلة دسمة جلبت له من الأهل؟ أما الفواكه فتكاد تكون معدومة، وحتى الحانوت الذي توفره إدارة السجن للسجناء يكون خاليا من المواد ذات القيمة الغذائية العالية، وهذا أيضاً أمر متعمد من قبل سلطة البعث طبعاً؛ لأنها كانت تمارسها كوسيلة تعذيب وإيذاء، بل وسيلة إعدام؛ لأن كثيرا من السجناء كانوا قد ماتوا بسبب العطش، والجوع، والإهمال، تحت البرد، والحر، والظروف غير الصحية داخل العنابر، والسجون، والمعتقلات.