الإرهاب الفكري المُمارس من قبل البعث
(الفكر الإمامي أنموذجاً)
الأستاذ الباحث عبد الله خريبط رهيف
في مطلعِ التّسعينات من القرن التاسع عشر كنتُ أرى أخي الشهيد يخفي بعضَ الكتب خلسةً في أسفل الأريكة (الكرويتة) مستخدماً ألواحا خشبية في ذلك وللتمويه وإخفاء بعض عنوانات تلك الكتب ووضع أغلفة الدفاتر المدرسية والصحف وبعض الورق المقوى لمحو معالم كنى التأليف، حينها تساءلت في نفسي لماذا يفعل ذلك؟ كوني حينها لا أفقه خطورة حيازة أو مطالعة الكتب الفقهية والعقائدية أو أي فكر له علاقة من قريب أو بعيد بالمذهب الاثني عشري، وبعد عدة أشهر خلت اعتقل أخي واقتيد إلى منصة الأحرار وأُعدم شنقاً في المحكمة الخاصة التابعة لسجن أبو غريب سيء الصيت، لا أعلم حينها لِمَ اعتُقِل ولم عُذب ولم أُعدِم وصودر حقّه في الحياة والعيش بسلام.
تبين لي بعدها أن ما أخفاه الشهيد من كتب هي وحدها تهمة تؤدي إلى الإعدام، فضلاً عن التهم الباقية استناداً لقرارات الحزب الدموي الذي يقوده الهدام وأعوانه مخالفاً بذلك كل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1984) والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان عام (1989) التي تضمنت حق ممارسة الرأي والتعبير والاعتقاد والتدين…، وهذا الحكم يسري على جميع من نحى هذا المنحى.
ولا يخفى على جميع من مرّ بتلك المحنة أن الفكر والتراث الاثني عشري بات عرضة لانتهاكات النظام البعثي طوال أكثر من ثلاث عقود خلت بهدف طمس معالمه، وتدنيس مقدساته وثوابته، وتقزيم وجوده فضلاً عن إزالة تأريخه وآثاره من تاريخ المسلمين كونه يُعد مذهبا رئيسا وأساسا يمثل أكثر من ثلثي المجتمع العراقي، مريداً بذلك تحقيق أغراضه ومآربه الدنيئة وتمرير خططه الشيطانية، إذ بان عداؤه العلني والمفضوح للمدونات الشيعية وحربه المفتوحة ضد المنبر الحسيني والمراكز العلمية الدينية على وجه الخصوص التي تمثل أكبر قاعدة علمية دينية في العالم الإسلامي من حيث المقومات الإساسية الموجودة فيها فضلاً عن اختلاف القوميات واللغات من طلاب علم يقصدون مراكزها في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وقد سرى ذلك العداء ليس على المستوى الحوزوي فقط بل تعدى إلى الجانب الأكاديمي أيضاً ممّا سبب ركوداً واضحاً على المستويين في تلك الفترة المظلمة، وإليك بعضاً ممّا أصدره النظام البعثي التعسفي من قرارات ظالمة ضد تلك الحاضرتين العلميتين :
- تهديم المدراس الدينية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة لا سيما بعد انتفاضة (1991) بدافع إزالة وجودها وطمس آثارها كمدرسة دار الحكمة التي أسسها السيد محسن الحكيم (قدس سره)، ومدرسة دار العلم التابعة للسيد أبي القاسم الخوئي (قدس سره) وهاتان المدرستان تم نسفهما بالمتفجرات، ومدرسة اليزدي الكبرى التابعة للسيد كاظم اليزدي (قدس سره) ومدرسة الصدر الدينية والمدرسة الشبرية وغيرها الكثير من المدارس التي أُخفيت معالمها ما بين الهدم والحرق والنسف.
- تدمير المكاتب الدينية التي تحوي على أرث تاريخي وعلمي قلّ نظيره في العالم الإسلامي كمكتبة الإمام علي (عليه السلام)، ومكتبة مسجد الخضراء ومكتبة مدرسة البروجردي ومكتبة جامعة النجف الدينية في النجف الأشرف، ومكتبة ابن فهد الحلي في كربلاء المقدسة وغيرها الكثير لا يسع المقام لذكرها.
- المنع من تداول الكتب الشيعية المعروفة كشرح الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام) وشرح نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والشيعة والإمامة لمحمد حسين المظفر والشيعة والتشيع لمحمد جواد مغنية (قدس سره) فضلا عن الرسائل العملية لمراجع الطائفة حينها، وغيرها من الكتب الفقهية والفكرية.
- إلغاء جامعة الكوفة التي تمثل حاضرة علمية مرموقة في العالم العربي والإسلامي وتحويل كلياتها (القانون، التربية الفنية، الهندسة، العلوم) إلى جامعة مستحدثة باسم جامعة بابل.
- تهديم المساجد والحسينيات ومحاربة المنبر الحسيني والشعائر الحسينية، فضلاً عن منع الأذان علناً في المساجد والحسينيات بقرار حكومي رسمي.
كل تلك المحاولات المتكررة من قبل السلطة الشمولية الحاكمة لم تجدي نفعاً – وإن تأخرت بعض الشيء – تجاه التراث العلمي الضخم ليس على المستوى الإسلامي فقط بل الحضاري الإنساني ككل، الذي لا يرضى بالظلم والجور وتزييف الحقائق، إذ إنه مبني على هدى القران والسيرة المعصومية المشرفة.