أساليب التعذيب والجريمة البعثية
جريمة التعذيب بالزرنيخ ح10
الأستاذ المساعد الدكتور
رائد عبيس
أعتاد المعتقلون، والسجناء، والمحبوسون، من العراقيين في عهد النظام البعثي القاتل، على الغدر، والمباغتة، والمفاجئة، وإيقاع الأذى فيهم من حيث يحتسبوا ومن حيث لا يحتسبوا.
وواحدة من طرق الغدر هذه التي تفاجئهم ولم تكن في حسبانهم هي أن يدسوا لهم ما يعذبهم أو يقتلهم فيما هو أكثر إلحاحاً لحياتهم من الشرب والطعام، فلم يتوان السجانون من الإيذاء، ولم يكترثوا لما يلحق السجناء من نتيجة الإهمال في تقديم هذه الحاجات الأساسية لعيش. أما بشكل متعمد منهم وبتصرف شخصي يظهر حقارة ووضاعة ودناءة ووحشية كل منهم. أو بشكل سياسة متعمدة في داخل السجون بأوامر من القيادات البعثية المتوحشة. فبين هذه وتلك يحدث ما يحدث للضحايا في معتقلات البعث وسجونهم.
التعذيب بالزرنيخ هي واحدة من أساليب التعذيب والإيذاء الكارثية جسدياً ونفسياً على السجناء، إذ يتسبب هذا العنصر الكيميائي ذي الرمز As وبعدده الذري 33 والشديد السمية والعضوي منه أو غير العضوي، بحالات صحية خطيرة على حياة الإنسان، فمن خواصه سرعة الإنتشار في عناصر الطبيعة من ماء وهواء وتربة. لذلك من السهولة تلوث ما يتناوله الإنسان من ماء شرب وغذاء، وهذا العنصر ممكن أن يكون صناعياً يدخل في صناعة كثير من المركبات الكيميائية الصناعية والطبيعية، ويمكن أن يتسبب بأضرار مباشرة أو غير مباشرة، موقتة أو طويلة الأمد، أو قد تكون مميتة.
أستعمل هذا العنصر الكيميائي كوسيلة تعذيب من وسائل حزب البعث أتجاه شعبه، في زيادة نسبته في كلور تنقية الماء في بعض المدن أو القرى التي يقصد البعث فيها إيذاء سكانها وألحاق الضرر بهم. أو استعمالها في داخل السجون لإيذاء السجناء وتعذيبهم جسدياً ونفسياً من جراء أعراض هذا العنصر ووضعه لهم في الماء المستعمل للشرب أو للاستعمالات الصحية الأخرى. أو في وضعه بالطعام المقدم لهم. وفي العادة تعطى هذه المادة في طعام السجناء بشكل منفرد أو بشكل جماعي. وتأتي بعد مدة تجويع طويلة تصل بهم إلى أيام، تفقدهم القدرة على الحركة أو مزاولة أعمالهم أو قضاء حاجاتهم، أو حتى القدرة على الكلام. فلا هم لهم في هذه الحالة سوى التفكير بالطعام وتخيل الأكلات وتذكر قصص الولائم والموائد مع الأهل والأقارب والأصدقاء. وقد تكون قصص من نسج الخيال. فيكون خيالهم بها لقمة بين أصابع أيديهم، و تجول بين أسنانهم.
وبعد هذا الخيال الواسع برؤية الطعام أو تناوله، يترقب السجناء كل حركة عسى أن تكون حركة جلب وجبة الطعام. وكل ما يرون القدور يستبشرون خير، وكل ما يفكرون به في هذه اللحظة هو ملئ بطونهم الخاوية، ولم يفكروا بما يحمله لهم ذلك الطعام المأمول المذاق واللذة والشبعة. من أذى رهيب يجعلهم في ندم الثقة بالسجان، وندم تناول الطعام، وألم الغدرة الجديدة التي لم تكن يتوقعوها حينها جراء الانشغال بملء المعدة وإسكات صوت جوعتها.
فتكون المفاجئة الطارئة غير المحسوبة هي وجبة طعام (بالزرنيخ) (مرق بالزرنيخ) أو (ماء بالزرنيخ) أو (خبر معجون بالزرنيخ). أثناء التناول النهم لذلك الطعام، بمرق مُشتهى كالفاصوليا أو العدس أو غيرها. ومع أحساس الشبع أوسدة الجوع أو رغبة التناول الجامحة. يكون قد بدأت المادة السمية للزرنيخ بأخذ مفعولها سريعاً، فيبدأ السجناء بالتقيؤ أو ينتابهم المغص الشديد أو الإسهال القوي، حتى يصل إلى حالة الشدة فيتحول إسهالاً دموياً. فيبدأ العذاب الجماعي يطال الجميع بألم جسدي عضوي حاد وبألم نفسي أكثر حدة، مع حيرة قضاء الحاجة التي تصاحب الجميع في الوقت نفسه، فيبدأ بأخذ طوابير على المرافق الصحي، ومن لم يسعفه الانتظار يأخذ دور غيره، وأحيانا يقضون حاجتهم بشكل جماعي بطريقة حلقة كلم منهم يستدير عن صاحبه. فلا تسعهم جميع الوسائل المتوفرة من الخلاص من الألم ومن التخلص مما تفرزه بطونهم من دم وشحم وغائط. فيباتون في صراخ معوي رهيب يعدمون جراءه النوم والراحة والقدرة على الحركة. بينما يغرقون سجانيهم الذين أعدوا لهم أمسية بعذاب الزرنيخ بنوم عميق. يأملون أن ينقضي ليل هذا العذاب، ويحل الصباح ليطلبوا به الطبابة والطبيب وأن يستجدوا المساعدة للتخلص من هذا الأذى، فأحياناً تقدم لهم المضادات الحيوية المعدة سلفاً لنتائج ذلك الطعام، وأحيانا لا يستجاب لهم.