أمي والأمل المفقود
د. عطور الموسوي
اعتقلوا أخي الكبير السيد جمال طالب في كلية الهندسة المرحلة الثالثة بعد شهر واحد من اندلاع حرب الثمانية أعوام بين العراق وجارته التي تحده بألف ونصف الألف من الكيلومترات..
كانت كل يوم تأخذ كيسا فيه ملابس وطعام وتدور على دوائر الأمن تبحث عنه وتعود آخر النهار وقد أعياها التعب واختنقت بعبرات أبت سكبها أمام الجلادين الذين نهروها وزجروها ولم تجد عندهم جوابا لسؤالها: أين ولدي؟!
وبعد عام واحد اعتقلوا أخي الثاني السيد جلال ابن السبعة عشر ربيعاً وكان طالبا في المرحلة الإعدادية ليزيدوها ثكلا فوق ثكل..
لكنها لم تواصل رحلتها اليومية تلك وإنما اكتفت بالصبر والدعاء..
نعم علمت أنهم أُناس بلا قلوب وأنَّها لن تجد منهم إلا الأذى والإهانات وهذا ما لا يرضاه أخوتي..
كنتُ أراها تبكي في لحظة من اللحظات وتتوجع وكأنها تستشعر سياطهم على أجساد ولديها وتتمتم: بحفظ الله يمه..
وتنادي ربها ربي أنَّهما وديعتان عندك وفي حرزك وحفظك..
ظلت تترقبهما بعد كل عفو يصدره المجرم صدام بضغط من الأمم المتحدة دون جدوى ولم تفقد الأمل بعودتهما..ومنت نفسها بزواجهما ورسمت في مخيلتها صوراً لأولادهما يحفان بها..ولم تتوقف عن الدعاء لخلاصهما من السجن وتردد: يا راد يوسف على يعقوب ردهما علي بقدرتك..
في 9 نيسان 2003 عندما أظهر التلفزيون العراقي صور السجون وقد فتحت أبوابها وقد خلت من سجنائها راعها ذلك وظلت تناشدنا واحدًا واحدًا:هلموا إليهما ربما سيموتون من الجوع والعطش بعد أن هرب الجلادون..
هرع ما تبقى من أخوتي ومعارفنا لكنهم وجدوا أسماءهم قد أخذت تسلسلا في قوائم الشهداء العديدة التي ملأت جدران دوائر أمن الطاغية المنتشرة في بغداد..
ومررنا بمحنة أشد من يوم اعتقالهما كيف سنخبرها بأنهما شهيدان مع الشهداء وهي التي أعدت لهما متطلبات الزواج من حلي ومفارش وملابس!
فجعت أمي وقرأت ما في أعيننا من دموع وبكت بكاءً مريرا وأُقعدت عن السير لأيام.. لكننا ومجموعة من أخوات الشهداء قررنا إخراج أمهاتنا من حزنهن المقيم وربط قضيتهن بقضية الإمام الحسين عليه السلام، فاقمنا مجلس عزاء جماعي للشهداء في جامع وحسينية علي البياع وجمعناهن من أنحاء بغداد وجلسن يستمعن للمراثي الحسينية ويبكين وتعرفت كل منهن على مصيبة الأخرى فهانت عليها مصيبتها يوم وجدت أمهات ثكلن بثلاثة وأربعة شهداء ومنهن من ثكلت بشهيدات..
هنا بلسمت جراحها وقالت ما دمنا على خط الحسين هنيئا لكما الشهادة..
فقررت المشاركة في الزيارة الأربعينية التي صادفت بعد أيام من سقوط الطاغية والتي حرصت كل عام على المشاركة فيها رغم التقييد الكبير من قبل السلطة الجائرة إبّان حكم البعث البائد.. كانت تدعو لهما بالفرج.. لكنها هذا العام صارت شخصا من شخوصها وواست سيدة كربلاء بشهدائها وزارته عليه السلام وكأنها ممن قدم له النصر وفداه بالولد يوم نادى: هل من ناصر ينصرني ؟
عادت ولسان حالها يقول: حسبي إذا ذكر الشهيد بأنني أم الشهيد..
واكتفت بالقبور الرمزية التي أقمناها قرب قبر والدي في مقبرتنا في أرض الغري تزورهم وتتلو عندهم آيات الذكر الحكيم وتشعل عيدان البخور وتسأل الله اللحاق بهما وأن يستقبلاها عند باب الجنة.