banarlogo

افتراس المثقف في زمن البعث

افتراس المثقف في زمن البعث

(1)

م.م محمد الخزاعي

 

 يذكر لنا التأريخُ قَصصاً من مدوناته تصوّر لنا الصراعَ القائمَ بين المثقف والسلطة، فمنذ ما حدث بين أفلاطون والطّاغية المستبد “ديونسيوس” من صراع كبير، وليس بعيدا عن متناول الأيدي قصة كليلة ودمنة التي تصوّر لنا مناهضةَ المثقف لأساليب القمع والاضطهاد الذي يمارسه الحاكم المستبد ضد المجتمع.

فدورُ المثقف في الحياة العامة وتأثيرُهُ المباشر في مصائر الشّعوب والطغاة على السواء ليس بالأمر الخفي على الحكّام المستبدين؛ لذلك ومنذ قديم الزمان كانوا يحاولون التقرّب من المثقف، ويفاخرون بوجودِ الفلاسفة والشعراء والعلماء في بلاطهم، لمهمتين أساسيتين أولهما: إشغالُ المثقف عن هموم الشعب وتنحيته عن الاصطفاف بجانب الضحية من خلال إدخاله إلى الملذات وإلهائه عن مهامه الأساسية، وتقريبه أو إسناد المناصب إليه، وثانيهما: نيلُ الشّهرة والخلود في التاريخ من خلال الأعمال الفنية التي تنتجها قريحةُ المثقف.

لذا عمل حزب البعثُ كونه حزباً متسلطاً في تعامله مع المثقف على مستويين، الأول عبر اختيار نخبة من المثقفين، وإسناد عدة مناصب إليهم، أو تخصيص رواتب وإعانات شهرية مستمرة لهم، بالمقابل تخلّى المثقفُ عن مهمته الأساسية في تنوير المجتمعات، وأصبح دميّة ترسم صورا زائفة لانتصارات وهميّة للطاغية وأزلامه، وهذا المستوى شكّل من الخطورة بمكان، إذ عَمِل البعث من خلاله على تحريف التأريخ، وتزييف الحقائق، وليس بعيدا ما فعله في إنتاج الفلم السينمائي ” المسألة الكبرى” الذي سرق من خلاله الثورةَ _ثورة العشرين_ من أصحابِها الأساس، والصقها عنوةً في غيرِهم وهؤلاء يُطلق عليهم “مثقفو السلطة” لما اتخذوه من مواقف تمجّد الطواغيت، وترفع شأن الاستبداد، إذ كانت أسراب منهم تنقُ نعيق الغربان في البرامج والمهرجانات والاحتفالات والمجالس في تمجيد الطاغية، وتحسين صورة نظامه الإجرامي.

أما المستوى الثاني الذي عمل فيه النظام البعثي هو في تصفية المثقف الذي لا يبيع قلمه، أو ضميره قبل ذلك، فقد قام النظام البعثي بحملات عديدة خلال هيمنته على الحكم في تصفية المثقفين الذي تحدثوا بهموم الشعب، أو مارسوا دورهم كمثقفين في رفع شأن المجتمعات من الناحية الاجتماعية والثقافية، الذين يتحسسون أوجاع بلادهم وهموم شعبهم وعمل في ذلك وفق تصنيف طائفي مقيت، فقد ظل المثقف العراقيّ أو الشيعي تحديدا متهمًا مغدورًا مستباح الدم عند السلطة البعثية، ولا ننسى ما الذي فعله البعث البائد بأدباء وشعراء العراق وكتّابه العظام الذين شردهم في بقاع الأرض أو منعهم من الكتابة في أفظع عملية قتل للعقل ارتكبها هذا النظام البائد.

نعم، أثّر الافتراسُ الفكري والجسدي الذي مارسه النظامُ البعثي في تعطيل الحركة الثقافية في العراق عقود عدة، إلا أنه لا ينبغي أن يقف عائقاً أمام نقل الحقيقة، ومنع التحريف والتزييف وتوثيق ما تعرّض له الإرث الثقافي البشري والمادي من هجوم بربري مقيت على يد أعتى نظام استبدادي في العصر الحديث.