banarlogo

جمهورية الخوف بوصفه كتاباً تأسيسياً لفهم نظام البعث

جمهورية الخوف بوصفه كتاباً تأسيسياً لفهم نظام البعث
د. قيس ناصر
باحث واكاديمي

 

يُعد كتاب جمهورية الخوف لكنعان مكية، أحد أبرز المؤلفات التي اشتغلت على دراسة جرائم النظام البعثي بشكل عام، وقد عُرف مؤلفه أولاً باسم مستعار (سمير الخليل)، لأسباب أمنية حينها في ثمانينيات القرن العشرين، وصدر باللغة الإنجليزية ، بمعنى أن الكتاب كان موجهاً للرأي العام الغربي، الذي لم يعرف شيئاً في ذلك الوقت عن طبيعة جرائم النظام الذي يحكم العراق.
لقد سعى مؤلف الكتاب إلى الوقوف على ما يؤلف بين العناصر المختلفة لتلك الجرائم، عبر سرده لعدة قصص تشير لقسوة النظام، وفي الوقت نفسه تشي بضرورة أرشفتها، وهو المشروع الذي عمل عليه بعد 2003م، من خلال مؤسسة الذاكرة العراقية، التي كان عملها مثار جدل في الوسط العراقي .

بعد أحداث الخليج الثانية 1991م، حقق الكتاب رواجاً كبيراً، وتم تداوله باسم مؤلفه الحقيقي، وأفكاره تم تداولها في الأوساط العربية والعالمية، وفحوى الكتاب كما أشار إليها المؤلف نفسه، هي قصص الرعب التي كانت لها مكانة مركزية لدى النظام البعثي، ودراسة لنظام حكم قد سيطر من خلال سياسة الخوف التي اصبحت جزءاً تكوينياً في العراق، ربما لم تتغير تلك السياسة وإن كانت بشكل جزئي، إلا بعد هزيمتها مع الانتفاضة الشعبانية المباركة، بل أن حتى معيار المواطنة إن صح التعبير يُعتمد تقييمها وفق معيار البعث، على مدى كتابة المواطن للتقارير، التي أغلبها كانت كاذبة، بمعنى آخر أن من عناصر المواطنة البعثية (الخوف والكذب).
في هذا المقال القصير، سيتم مقاربة نص جمهورية الخوف مع نصوص قريبة أخرى، ارتكز إليها مؤلف الكتاب في فهمه ومقاربته للنظام البعثي، منها اللفياثان لهوبز، مع التأكيد أن دولة اللفياثان وفق هوبز تعني: “نوعا من وحدة الجميع الفعلية في شخص واحد، قائمة بموجب اتفاقية كل فرد مع كل فرد”، لكن هذا الشكل يختلف عن دولة نظام البعث، التي لم تأت من تخويل أو عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، إنما تم الحكم وفق سياسة الخوف، وهذا الجانب الآخر من دولة اللفياثان، إذ يقول مكية: “من الممكن التفكير أن البعث قد سعى إلى تحقيق عالم هوبز من المادة الخام التي قدمها له المجتمع العراقي، لقد كان مشروع البعث هو تحطيم الواقع الاجتماعي الموروث إلى مجموعة جديدة من العناصر المؤلفة المتماثلة الوزن: أفراد خائفون بلا جذور، مغتربون عن جماعتهم التقليدية(القرابة، القبيلة، الطائفية، والطبقة)، وسيعاد بعد ذلك تجميع تلك الشظايا، داخل شبكة جديدة من الصلات المتمركزة في الدولة”.

وإذا كانت دولة البعث اعتمدت على النهج السابق، إلا أنها قد تركته في التسعينيات من القرن العشرين، إذ أُعيد الاهتمام بالقبيلة، فضلاً عن سلوكياتها الطائفية بعد عام 1979م وقبل هذا التاريخ أيضاً، حين تحول الحكم إلى حكم القرابة، بل لم يقف الأمر عند هذا الحد، إنما قد تم تغيير الطبقة الاقتصادية إلى طبقة أخرى تنسجم مع تطلعات البعث في إيجاد طبقة جديدة وهذا الأمر كما تم الإشارة إليه في مقالات سابقة قد كانت بداياته من سنة 1964م.

أدرك مكية في دراسته للبعثية، أن نظام البعث قد عمل على حقن نوعية من الخوف الذي افترضه هوبز مجرد افتراض، لذا احتاج البعثيون إلى صناعة مؤسسات مخصصة للعنف، وبالتأكيد لم يحلم هوبز أبداً بمثل هذا العنف، فقد كان اهتمامه على عكس ذلك تماماً، أن يخلص الافراد من خوف الموت الذي كان يتلبسهم في حالتهم الطبيعية الحرة. ويمكن القول وفق رؤية هوبز، توجد وسيلتان لبلوغ هذه السلطة، الأولى من خلال اخضاع الآخرين لحكمه وإبادتهم إن رفضوا، أما الثانية فهي الاتفاق على الخضوع لشخص واحد أياً كان، أو إلى مجموعة أشخاص بشكل طوعي، والوسيلتان قد طُبقتا في عراق البعث، فمن رفض حكمهم قد تمت إبادته ومن خضع لهم بشكل طوعي كان أما نتيجة لسياسة الخوف أو موالٍ لفعلهم .

والمقاربة الثانية لنص جمهورية الخوف مع الشمولية في فهم ارندت، وهذا الأمر واضح جداً لمن يقرأ الكتابين، وفي السياق نفسه، لابد من الإشارة إلى وجود اختلاف بين حنة ارندت ومكية، إذ إن الأولى اشتغلت على فهم النازية والستالينية بعد نهايتهما، أما مع مكية فالأمر مختلف معه، فميزته إنه اشتغل على دراسة البعثية في ذروة ممارستها للعنف، لكن هذا لم يمنعه من الاشتغال بحماسة في التحليل، بل يمكن القول إن مكية يُعدّ من أوائل من كشف قسوة النظام البعثي وظلمه على المستوى التحليلي- وإن سبقته دراسات وصفية أخرى-، وهذا على أقل تقدير. ويمكن مقاربة الكتابين بعد تحليلهما من خلال اعتماد مكية على مرتكزات فهم ارندت للشمولية التي هي: (الحزب، القائد، الايديولوجيا، والأجهزة القمعية).