التوثيق
بين الذاكرة الشفهية والذاكرة الصورية
أ.م.د نصير كريم كاظم
باحث في المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرّف
اعتمدت الشّعوب في بداية توثيقها للحضارة وتأريخها على الإرث الشفوي إذ لم تظهر الكتابة إلا متأخرة، مما سبّب ذهاب الكثير من المنجزات والحوادث التي مرّت على مختلف العصور.
لذا توثّق الحضارة وبدايتها اليوم من تاريخ اكتشاف الكتابة في حضارة سومر، تاريخ بداية اكتشاف الألواح الطينية التي وثّق فيها سكانُ الرافدين تأريخَهم وحروبَهم وكلّ ما أنجزته الحضارة في زمانه، ولولا الكتابة لما وصل لنا هذا التأريخ، وهذا ما جعل الباحثون يسجلون بداية الحضارة من سومر، مع علمهم أن التاريخ يسبقهم كثيرا وهناك حضارات ولدت واندثرت لكن خصوصية بلاد الرافدين أنهم وثقوها والآخرون لم يوثقوا.
لذا أهميّة التوثيق مرت بمراحل وأهمها على الاطلاق توثيق الكتابة التي مازالت حاكمة لليوم من خلال سعة التأليف في مختلف مجالات المعرفة واتخذت أشكالا متعددة.
بيد أن المنافسة اليوم شديدة مع تطور العالم التكنلوجي وتحول الإنسان إلى آلة صورية يؤمن بما يراه ويصدقه وينكر ما سواه.
إن تسارع الحياة لم تعط فرصة للكتابة فاليوم نشاهد أفول مرحلة الكتابة وتحول العالم إلى رقمي يختصر كل شيء لا وقت له للقراءة والمطالعة، يبحث عما هو مختصر وسريع يواكب عالم السرعة المتصاعد، فالإحصائيات دلت على أن المتابع لا يطيق الانتظار أكثر من دقيقة واحدة لمشاهدة أي معلومة أو مطالعة، وإن اعترض بعضهم أن هناك من يقرأ لليوم لكن السؤال كم نسبتهم للمجموع العام؟
إن الاكتفاء بالتوثيق المكتوب دون الصوري قد يسبّب مشكلة للأجيال اللاحقة ونحن نوثق لهم ونؤرخ لهم ونصنع ذاكرة، يحتاج الانتباه إلى الفئة التي نستهدفها؛ لَّأنهم الغاية والمعنيين من التوثيق.
ولا يفهم من ذلك أننا ندعو إلى إهمال التوثيق بالموسوعات والكتب، بل على العكس إنما دعوتنا لتنويع مصادر التوثيق لتلائم مختلف الأمزجة وكل العصور.
إنَّ الجهود التي بذلت لحفظ ذاكرة الشعوب ومنها العراق وإن كانت خجلة وقليلة لكنها تستحق الاحترام والتقدير، كونها مبادرات بعضها من جهات غير حكومية، لكنها تحتاج إلى عمل جماعي موسوعي ليكون الإنتاج كبيرا.
التوثيق ليس مسؤولية جهة واحدة بل مسؤولية جماعية يقع على عاتق الكل لحفظ الذاكرة بعد أن بدت عمليات تشويه الذاكرة وتغييبيها وتغييرها من قبل جهات مشبوهة.
إنَّ ذاكرة العراق مرّت بظروف صعبة وعصيبة من البعث وحكومة صدام المجرم مرورا بالقاعدة وداعش وما خلفها من إجرام والتاريخ لا بد أن يوثّق للأجيال خوفاً من تكرار تجربتهم بوجوه جديدة.
الاعتماد على وسائل التوثيق الصوري الإعلامي، وتوثيقها وبثها في وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة يساعد التوثيق المكتوب ليسير بتوازي لنصنع ذاكرة للأجيال، فضلاً عن سهولة وصوله إلى مختلف فئات الشعب والشعوب لسرعة العرض والتواصل.