جرائم البعث.. شواهد واثباتات
أد. حسين الزيادي
حدثني صديق يقطن الآن في كندا بعد أن خرج من العراق عام1991 يقول: عندما كنا أطفالًا في المرحلة الابتدائية في إحدى مدن جنوب العراق إبّان حرب الثمان سنوات مع إيران 1980- 1988، أخرجونا من المدرسة خلال ساعات الدوام الرسمي وتوجهوا بنا إلى أحد النوادي الرياضية التي تقع بالقرب من المدرسة ، وهناك شاهدنا بعض الأشخاص وقد رُبطوا على جذوع النخل الذي نصب ليكون أوتاداً في الساحة الترابية للنادي، قيل لنا إنهم (فرارية) وهي مفردة استعملت أيام الحرب مع إيران وتعني الجنود الذين يرفضون الاشتراك في الحرب، وأمام كل واحد منهم بضع رجال ملثمون لا يرى منهم سوى فتحات عيونهم يرتدون الملابس العسكرية ذات اللون الزيتوني الغامق وهم مدججون ببنادق الكلاشنكوف وبكامل العدة العسكرية، وعلى الجانب الآخر احتشد جمع غفير ممن اجبروا على الحضور إلى هذه الساحة لرؤية المشهد الإجرامي، ربما كان ذلك لإثارة الرعب في نفوس من يحاول أن يعارضَ النظامَ ولا يمتثل لأوامره، وبعد أن اكتمل عدد الحضور من شرائح وطبقات مختلفة، ساد الصمت برهة من الزمن وتقدم أحد الملثمين وأخرج ورقة صفراء من جيبه وتلا أمراً تضمن بعض المواد والفقرات وأسماء ممن سيشملهم أمر الإعدام، بعدها أمر بتوجيه البنادق باتجاه الجنود رافعا يده معلناً بداية الاطلاق، أطلق جميع الملثمين وابلاً من النيران باتجاه الجنود المربوطين على الجذوع كل مجموعة حسب ما موكل إليها، فيقول : لاحظت الرصاص يخترق أشلاء الضحايا بعنف وينهش في لحومهم، وبعض اللحم يتطاير من الثقوب التي أحدثتها الاطلاقات في الأجساد البريئة بسبب قرب مصدر اطلاق النار، أغلب الرصاص اخترق الأجساد ليرتطم بالجدار الخلفي للملعب، وما أن انتهت الاطلاقات التي سيؤخذ ثمنها حتماً من أهالي الضحايا وتدلت الرؤوس إلى الجانب وهي مازالت مربوطة على جذوع النخيل حتى علت الزغاريد من بعض النسوة اللواتي أسند لهن هذا الدور، وارتسمت ابتسامة الشيطان على وجوه القتلة معلنة إشباع الرغبة الجامحة للقتل، تعالـت همهمة الذعر بين الحضور وانهار بعضهم، لم يستطيعوا أن يتحملوا هول المنظر وبشاعة الجريمة، حاولوا الانسحاب لكن الساحة كانت مطوقة ولم يسمح لأحد بالانسحاب، تعالت الأصوات بالبكاء والنشيج المر المصحوب بنحيب الأمهات الثكلى، ومازال القول لصاحبنا الذي عايش الحادثة فيقول كنت حينها في المرحلة الابتدائية إلا أنَّ صورة المشهد وبشاعة الجريمة مازالت حاضره في مخيلتي إلى الآن ، وها قد جاوزت الخمسين عاماً وأحداث ذلك اليوم المشؤوم مازالت تحفر في ذاكرتي هول الجريمة وتبعث في داخلي خزين لا يتناهى من الأسى والوجع الدامي، فأتساءل أي عشق للدماء يكتنف هؤلاء الطغاة، وأي قسوة تخالطهم، وأي حقد يحملونه، وأي وحش كامن يتلبسهم، كان قدرنا أن نعيش المأساة، ونسمع صخب الجلاد، وصراخ التعذيب، ونتحسـس أدواتهم، لكن حزننا أن البعض لا يصدق كل ما يُقرأُ لأنه يفوق الخيال، لكن حسبنا أننا أدلينا بالشهادة وأدينا الأمانة و أفرغنا ما في صدورنا