النشأة والعنف الإرهابي
أ.م. د. رائد عبيس
تذهبُ الدّراسات المعاصرة على العكس مما ذهب إليه جون لوك ، بقوله: ” يولد الإنسان صفحة بيضاء والتجارب تخط عليه ما تريد” ، لا سيما الأبحاث السايكولوجية والانثربولوجية التي اهتمت بدراسة نشأة الإنسان البيئية والاجتماعية ، وما يرافق هذه النشأة من سلوك، واعتقاد ورأي وأفكار، الذي يظهر بها الفرد إنسانيته وعقلانتيه، وهما الأساس في جعل الشخص يعيش حالة اتزان واستقرار وسوية وتصالح مع الذات.
كيف نحافظ على سلامة الفطرة البشرية من الملوثات وأخطرها العنف بكل درجاته مستوياته ؟
قد يولّد الفرد وهو يحمل فطرة خبيثة أو جنوح فطري عنفي باتجاه الآخرين أو مع ذاته، حتى يصل إلى درجة الانتحار، وهناك من يولد وهو يحمل فطرة طيبة، تميل إلى فعل الخير ونشره بين الآخرين، والتأسيس له.
وهنا يأتي جواب ما تقدّم من سؤال كيف نحافظ على الفطرة السليمة ؟ وكيف نكبح الفطرة الخبيثة وجنوحها العنفي؟ كلاهما يحتاج إلى برامج تربوية وتعليمية، لكي نحافظ على حدودهما من الوقوع ضحية للتطرف في كل منهما، والمبالغة في إظهارهما؛ لأن المفاجئات الاجتماعية وما يرافقها من ظروف سياسية واقتصادية، قد تنتهي بالفرد إلى مصير صادم، ومجهول، يخسر به ذاته ومجتمعه.
فالنشأة تحت ظروف التعنيف، والاذلال والحقد الطائفي والحقد الاجتماعي والعنصرية والجهل، وانعدام التربية والمراقبة الأخلاقية لسلوك الطفل والفتى والشاب. تضعف لديه الواعز الأخلاقي الذاتي الذي يتخوف به الرقابة الاجتماعية، والدينية، فضلاً عن القانونية.
قد يتحول العنف وتحت أي عامل من هذه العوامل إلى ثورة ذاتية سوداء على القيم الذاتية والقيم الاجتماعية، ممكن أن نسميه “عنف الطفرة ” الطفرة المفاجأة نحو أعلى مستويات العنف وهو القتل، ودون ذلك من تعنيف أسري ، اغتصاب، رغبات الانتقام ، وأحلام يقظته فيه. فالمازوخية والسادية قد تظهر في سلوك الفرد بأعلى من درجة الجنس وكبته وأخطائه؛ لتكون عاملا مساعدا على جمع كل عناصر العنف السايكولوجي مع العنف الاجتماعي حتى يتحول فيما بعد إلى عنف إرهابي، لا بتصنيفنا وحسب، بل حتى في المعايير الأمنية والقانونية التي صنفت بعض أعمال العنف ما دون الإرهابية وما يرتقي لها وما هو إرهاب فعلاً.
وجدنا في تجربة إرهاب القاعدة و داعش ، ما يعزز حديثنا عن ما أسميناه بـ “عنف الطفرة” ، وهو عنف يظهر بشكل مفاجئ، على وفق اندفاعات الموروث العقائدي، والنفسي، والسياسي الاجتماعي، والعنصري المناطقي، والعقل الجمعي، والقناعة التي تبرر كل تلك الدوافع.
بها يدفع الفرد ذاته باتجاه فعل العنف بقسوته وإرهابه، بأثر عوامل النشأة الكامنة، وقد لا ينفع معها التعليم أو التربية الكسبية وشواهد ذلك قد وجدنا أطباء وأساتذة جامعات ، وفنانين، وأفرادا من شرائح مثقفة، انضموا إلى التيارات الإرهابية مثل داعش وأخواتها، بل وممارسة كل أفعال العنف الارهابي.
إذن هي النشأة وأبرزها النشأة العقائدية المغلقة التي تولّد الحقد الطائفي، وقد صبغ على الإرهاب المعاصر صبغة الإرهاب الديني وعنفه الذي سرعان ما استثمر سياسياً، دولياً، وإقليمياً، ومحلياً، ليكن أداة تهديد، وزعزعة، ومساومات، هذا الاستثمار السياسي لمستوطنات العنف ومظاهره، يظهر حجم العنف السياسي الكامن خلف سلوكيات مختلفة، وقد يأتي العنف السياسي موازي للعنف الإرهابي بل ومساعد له، وبنفس تلك الدوافع والعوامل ، وهذا ما يزيد تجذر العنف في البيئة الاجتماعية، ويوسع مع ظهوره والتصريح به ضد الآخر، وهنا قد يضعف دور الثقافة ونشاطها في محاولات استئصال العنف ، وكبح جماحه الارهابي نظرياً، وعملياً، الساعي للقتل والإبادة .