banarlogo

جريمة النظام البعثي بحق زائري الأربعين في عام 1977 

جريمة النظام البعثي بحق زائري الأربعين في عام 1977 (2)

عبد الهادي معتوق

 

 

لم تجد الجماهير الإسلامية متنفساً عن غضبها خلال الأيام العشر الأولى من شهر المحرم الحرام ، إلا من خلال الموكب الجماهيري السنوي المعروف باسم “عزاء طوريج” الذي يندفع فيه أكثر من مائة ألف في وقت واحد ، وبهتاف إسلامي واحد إلى مرقد الإمام الحسين عليه السلام  ، وقد شنّت سلطات الأمن حملة اعتقالات بين صفوف المتظاهرين بعد أن تصاعدت بعض الهتافات المناوئة للسلطة البعثية ، وانتهى يوم العاشر من المحرم الحرام وانسحبت الجماهير وفي أعماقها نار  حقد تجاه قيادة الحزب وسلطته الحاكمة.

وأخذت تعبئ نفسها إلى يوم أربعينية شهادة الحسين عليه السلام في العشرين من صفر ، والتي اعتادت الجماهير الإسلامية فيه الخروج عن بكرة أبيها ، على شكل مواكب جرّارة  تضم مئات الآلاف من مختلف طبقات الشعب وأصنافهم ، تتجمّع في مدينة كربلاء  المقدّسة ، وكانت في أثناء الإعداد والتعبئة هذه تترقب تحركات السلطة البعثية ورجال أمنها ومخابراتها ، وقبل أيام من حلول المناسبة دعا محافظ النجف آنذاك المدعو (جاسم الركابي) روؤساء المواكب النجفية إلى اجتماع خاص بهم باعتبار أن مواكب النجف الأشرف هي أكبر المواكب الحسينية، وخلال هذا الاجتماع القي عليهم آخر قرارات القيادة السياسية لحزب البعث الحاكم ، القاضية بمنع خروج المواكب الحسينية في النجف وكربلاء ، وفي أي مكان آخر من العراق ، وركن رؤساء المواكب رفضوا  هذا القرار ، وأعلنوا عزمهم على الخروج حتى لو كلّفهم الأمر بذل دمائهم في سبيل ذلك ، لأن هذه الشعائر هي جزء من دينهم وعقيدتهم الإسلامية ، والجهاد في سبيلها هو جهاد في سبيل الله دونه المال والنفس وكلّ شيء من هذه الحياة الفانية ، وفي هذه اللحظات الحاسمة  من تأريخ شعبنا العراقي المجاهد سجل أنصار الثورة والشهادة ، أنصار أبي الثوار والشهادة الإمام الحسين عليه السلام موقفهم البطولي وبيّتوا للانتفاضة وقرروا ساعة الصفر لانطلاقها .

في الساعة الحادية عشر من صباح يوم 15 من صفر  حسب الاتفاق الذي أعلن جهرة وتحدياً للسلطة وجلاوزتها انطلقت الآلاف من الجماهير المستميتة وهي تحمل الرايات واللافتات الإسلامية من ميدان الإمام علي عليه السلام في قلب النجف الأشرف متحدين قرارات السلطة البعثية الغاشمة بمنع خروج المواكب الحسينية ، وتقدّمت هذه الجماهير بكل قوة وإصرار واكتسحت كل ما كان يعتريها من مرتزقة البعث ورجال مخابراته بما يملكونه من عصي وأدوات جارحة بسيطة واتجهت صوب مدينة الحسين بن علي عليه السلام كربلاء الدم والشهادة ، مسيرة مائة كيلو متر سيراً على الأقدام ، تدفقت عشرات وكأنها جيش جرار جاء لتجديد الثورة الحسينية العظيمة على يزيد العصر وطاغيته الجديد .

وكانت ملحمة رائعة سجلها أنصار الحسين عليه السلام في صراعهم مع مرتزقة البعث وجلاوزته، ففي الوقت الذي أقبلت فيه الناس لكل ما تستطيع من مساعدات غذائية وأفرشة ومياه وحماية ، كانت سيارات الأمن والقتلة من المخابرات يتخطفون ويرصدون الرؤوس المحركة لهذه الانتفاضة الهادرة ، وأخذوا يتحينون الفرصة للانقضاض عليهم .

وكانت الجماهير الإسلامية متحفزة هي الأخرى للرد بكل قوة وشجاعة على هؤلاء الأقزام  ، وفي منطقة (خان النص) التي تقع بين النجف وكربلاء على بعد 50 كيلو متر تقريباً حدث صدام دموي  بين الجماهير ورجال الأمن الجبناء سقط فيه أحد الشبان المتظاهرين شهيداً ، في حين اجتاحت الجماهير الغاضبة مقر مركز الشرطة في الناحية وأصابت مجموعة من رجال الأمن والشرطة بجراح بليغة واستمرت المسيرة بإصرار وشجاعة ، وحاولت الشرطة مساومة المتظاهرين الذين تحصنوا في منطقة تسمى (خان النخيلة) ولكن محاولاتهم باءت بالفشل.

وفي صباح اليوم التالي فوجئت الجماهير التي نهضت لتواصل المسيرة بعشرات الدبابات والمدرعات ومجموعة كبيرة من السيارات العسكرية تحمل العسكريين المدججين بالسلاح وهم يحاصرون المنطقة ، ولكن قوة الايمان بالله والعزم على التضحية في سبيله كانت أكبر من كل قوة آلية يلوّح بها طواغيت البعث ، فانطلقوا يخترقون صفوف العساكر ، ويشاغلون قوات الأمن والمخابرات حتى استطاعت الغالبية العظمى الإفلات من هذا الحصار والاستمرار بالمسيرة ، وهنا حدث ما كانت تخشاه السلطة البعثية الجائرة ، فقد بادرت مجموعات من أفراد الجيش على مراتبهم العسكرية من الذين امتزجت مشاعرهم الإسلامية بمشاعر أبناء الشعب المجاهد إلى اطلاق سراح المعتقلين وتهريبهم بعيدا عن أعين مخابرات البعث الفاشية ورجال أمنهم القتلة ، وتمكنت الجموع الإسلامية المجاهدة من الوصول الى كربلاء المقدسة التي كانت تعيش الترقب والتأهب .

وبنفس الوقت كانت مخابرات وأمن القيادة البعثية الحاقدة تترقب وتترصد وتتأهب للانقضاض على الجماهير العزلاء إلا من هتاف “لا إله إلا الله” وشعار الثورة الحسينية الخالدة “يد الله فوق أيديهم” واستعرت أحقاد شريعة الغاب في نفوس الجلاوزة ، وهجموا بكل قسوة ووحشية على الرجال والنساء والشباب والأطفال  والشيوخ ولطّخوا أيديهم الدنسة بدماء الأبرياء الطاهرة ، وشحنوا مئات السيارات بآلاف المجاهدين والزوار بلا تعيين وتمييز ، حتى بلغ مجموع المعتقلين خلال يومين فقط حوالي عشرين ألف مواطن ، وبدأت الجولة الثانية من جولات الظلم والطغيان ، وتوجه مئات القتلة والمتوحشين تصب أنواع التعذيب الرهيب على أجساد المساكين الذين قالوا “ربنا الله ثم استقاموا” فقتلوا منهم تحت التعذيب وذلك في معتقل رقم واحد العسكري في معسكر الرشيد في بغداد وشوهت أجساد الكثيرين ، وسيق البعض الآخر من خلال محكمة صورية مضحكة إلى أعواد المشانق وحكم على آخرين بالسجن المؤبد مدى الحياة ، وقد ساومت قيادة البعث العميلة علماء الأمة خاصة السيد الشهيد محمد باقر الصدر على دماء ورقاب مجموعة من الشباب المؤمن الرسالي ، وبعض العلماء المجاهدين خاصة السيد الشهيد محمد باقر الحكيم الذي اعتقل ظلماً وجورا لغرض المساومة عليه ، والضغط على المرجعية طلباً لسكوتها وعدم تصعيدها للموقف ضد الحكومة البعثية الغاشمة .