banarlogo

جريمة سبايكر وثقافة التخليد

جريمة سبايكر وثقافة التخليد

الأستاذ المساعد الدكتور

رائد عبيس

عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف

 

 

لا يخلو التأريخُ من كوارث بشريّة مشابهة لمجزرة سبايكر، من حيث العدد، و النوع ، ومناسبة الجريمة. وقد كُتب لأكثرها النسيان، والإهمال، والتغافل، وطمس الحقائق، والوقائع التي أوجدتها، وتسببت بها ؛ وذلك لأن كثيراً منها وقد يكون كذلك، لا تحمل قضية معينة تكون سبباً في تخليدها ، أو طريق لأحياء ذكراها ، وقد يكون أيضاً لا مصلحة لأحد في أن يُثير ذكراها بين مناسبات مختلفة، فضلاً عن مناسبة وقوعها، وربما لا يُوجد من يدعي عنها ويطالب بمناسبات التخليد، ومطالبات الدم، والأحياء الدائم لمناسبة وقوعها، وإثارة أسبابها، وتدارسها، وتعليل حدوثها، والتحذير من الوقوع في خطأ تكرارها.

“سبايكر”  !

الجريمة التي أوغلت أذى في وجدان الإنسان المعاصر، الذي تشبعت مسامعه بمفاهيم الحرية، والحقوق، والسلام ، والمدنية، والمواطنة، والتعايش الأليف.

ولعلها أخطر جريمة إبادة جماعية تعرضت لها الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية ، قامت بها مجاميع متطرفة وإرهابية. فهي لا تشبه الكوارث البشرية التي يتسبب بها جيش نظامي، في حرب معلنة بين جيشين، ودولتين، ونظامين. بل حدثت جراء فكر متطرف ، وعقيدة ضحلة ، وسلوك فاسد، وتدريب متوحش.

لماذا  نخلد جريمة سبايكر ؟

جريمة سبايكر؛ عرفت بهذا الاسم، واشتهرت به، فهي مخلدة بهذا الاسم، أكثر من أيِّ اسم آخر وحتى الرسمي منها.

 المكان؛ هو موقع القصور الرئاسية المرتبطة بوحشية النظام السابق واسمه، و نهر دجلة، وصخرة الدم على ضفافه “المذبح” الإجرامي للشباب الأبرياء في هذه الجريمة.

 تكريت ؛ المكان الأوسع للجريمة التي ارتبطت في وجدان العراقي الغاضب، والحاقد، على نظام البعث و رمزياته المشؤومة.

 المنفذون ؛ هم عناصر بعثية ، وتكفيرية، سلفية، ومخابراتية، ومرتزقه يحملون جنحة القتل، ونزعة الإبادة ، ورغبة الانتقام ، ووحشية السلوك ، وبطولة القتال المزيف، والتمثيل المازوخي المتوحش للعدوانية.

قضيتها :  هي قضية شباب عراقيين أبرياء، مغدورين ، تعرضوا لخيانة ، وقلة أمانة ، وبيع ضمائر ، ومؤامرة بعثية مع خونة من الجيش، وقياداته، تم نقلهم من أماكن، ومناطق ، ومدن تطوعهم ، رغبة منهم في الحصول على راتب، ومصدر رزق  وتعيين، والحصول على فرصة تطوعية على صنف عسكري قد يرغبون فيه.

وصف جريمة سبايكر : هي جريمة إبادة بحق الإنسانية، وجريمة فتنة اقتتال طائفي ومذهبي، بمحركات مختلفة عشائرية، وسياسية، واقتصادية، وعسكرية، ودينية ، وبعثية. داخلية وخارجية ، بكون الجريمة وقعت على شبان من أبناء المذهب الشيعي على نحو خاص ، وكان ذلك على وفق تصريحات قادة الإرهاب والتنظيم الإرهابي “داعش”. الذي كان ينوي، وكما أعلن مراراً إبادة أبناء الطائفة الشيعية تماماً ، فهناك سبق أصرار وترصد، وتحين فرص، ليوقعوا بأبناء الطائفة الشيعية جريمة إبادة جماعية.

 تم وأد هذه الفتنة ، فتنة جريمة الحرب ، بحكمة المرجعية الدينية في النجف الأشرف، واحتواء تداعياتها بالموقف الإنساني، والوطني، والشرعي، من قبل السيد السيستاني “دام ظله الوارف”.

ذهبت الأوساطُ الرسميةُ، والشعبيةُ إلى تخليد ذكرى جريمة إبادة متطوعي قاعدة سبايكر، سنوياً منذ وقوعها في عام 2014، وحتى هذه السنة، ونحن نقترب من يومها السنوي من هذا الشهر الجاري. وإن كانت بشكل متذبذب من الاهتمام في ذلك ، فنحن  لا نريد أن يكون هذا الاستذكار يعني أولياء الأمر من أهالي مجزرة سبايكر حصراً ، بقدر ما نستشعر المسؤولية الوطنية، والشرعية، والإنسانية، اتجاه قضيتهم بكونهم ظلموا على أساس هذه الانتماءات. بل من الواجب أن تنبري جميع الجهات الرسمية والشعبية إلى تخليد ذكرى شهداء مجزرة سبايكر، والإبادة التي لحقتهم جراء النزعة العدوانية للبعث ، والتنظيمات التكفيرية، بحق أبنائنا الأبرياء.

فكانت هناك مبادرات ، وفعاليات ، ومؤتمرات ، ومهرجانات ، وزيارات لموقع الجريمة من قبل روابط ، ومؤسسات مجتمع مدني ، والعتبات المقدسة التي أولت الاهتمام ،بكل ما تقدم ذكره، بحق ضحايا هذه المجزرة ،من تخليدهم عبر الكتابة عن هذه المجزرة بمقالات ، ومؤلفات ، واصدارات، وأبرزها “الموسوعة الوثائقية لمجزرة سبايكر ” التي أصدرها المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف في 1/6/ 2023. بأربعة وعشرين جزءاً ، فضلاً عن برامج الزيارات لموقع الجريمة، مع اصطحاب أهالي الضحايا وذويهم ، بدعم كامل من العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين ،وكذلك تكريم ذوي الضحايا مادياً ومعنوياً عرفانا منها بتضحيات، وكرامة دماء الأبرياء من أولادنا المغدورين ظلماً وعدوانا.

فثقافة تخليد الذكرى : هي تنشيط للذاكرة الجمعية، وتعريف بطبيعة الجرائم التي تطال المجتمع، لأسباب عرقية، وقومية، وطائفية ، تهدد بطبيعة الحال السلم الأهلي والتعايش الأليف، وتحاول أن تنال من الوحدة الوطنية بكون أنَّ جزءا كبيرا من أسباب ظهور هذه الكيانات الإجرامية جاء بفعل خارجي يهدف إلى تقسيم العراق وتهديد مستقبلة وأبناء شعبه. وكذلك إتاحة فرصة لدراسة، كل الأثار المعنوية، والمادية، وتحريك الوعي، والثقافة، والمعرفة لتقديم رؤى مختلفة وأفكار في مناسبات التخليد.

فالإنصاف لأولئك الأبرياء يأتي عبر الاستذكار المدروس، على أساس معيار أخذ العبرة، وتعلم الدرس، وتجاوز الأخطاء، وتصحيح المسار ، حتى لا تتكرر علينا هذه الجرائم، بنفس العوامل والأسباب ، وحتى  لا يكتب التأريخ على هامشنا ما يُريد.