محنة الأمة العراقية مع الإعلام البعثي البائد
رياض سعد
طيلة فترة الحكم البعثي التكريتي الصدامي ؛ لم يهدأ العراقُ من صخب ( السماعات الخارجية ) وضوضاء المسيرات الجماهيرية والتظاهرات الاستعراضية ، فقد كان الطلبة والعمال والموظفون والبعثيون يجبرون على التظاهر والخروج في مسيرات صاخبة ، يرفعون فيها أعلام العراق وفلسطين وصور صدام … ،و ينددون بالاحتلال الاسرائيلي تارة وبالإمبريالية تارة أخرى ، وبالأمريكان ثالثة ، وبالشعوبية والرجعية والطابور الخامس رابعة ؛ والفرس المجوس … إلخ ، مع ترديد الشعارات البعثية والصدامية والإشادة بالقيادة البعثية التكريتية الصدامية … ؛ وكانت الــ ( لافتات تحمل شعارات رنانة من قبيل : صدام اسمك هز أمريكا ) ، و البعثي الكهل وسط الحشود يصرخ بأعلى صوته أمام الميكرفون ؛ فاتحاً فمه على مصراعيه ، وقد تشنج جسمه وعرق بدنه : (بروح بالدم نفديك يا صدام).
وكل هذه التصرفات والصرخات والأهازيج والشعارات الرنانة والخطب الطنانة والحركات التمثيلية و ( الهوسات ) الاستعراضية ولاسيما في عقد الثمانينات والتسعينات ؛ و التي ربما ينخدع بها الكثيرون من أبناء الشعوب العربية وغيرها ؛ فيظنونها حقيقية ، تنبع من أعماق المشاعر الشعبية ، وأن هذه الحشود العراقية الشاخصة أمامهم يعنون ما يقولون ، ويقصدون ما يفعلون… ؛ وربما لا يصدق الكثيرون لاسيما من ( القومجية العرب ) والطائفيين أن ما يرون يدل تمام الدلالة على عكس ما يتراءى لهم، ويبدو لأنظارهم ؛ وإنها تخفي خلفها إكراهات شخصية وإرهاصات سياسية قلقة واضطرابات اجتماعية … إلخ .
في حين كان العراق يعيش الصراعات والأزمات والحروب والمجاعات والتخلف والانتكاسات والجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان ومئات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية والتربوية والتعليمية المستعصية ؛ والتي كان يقف صدام وبعثه و أزلامه وزبانيته أزاءها موقف العاجز والفاشل والجاهل والانفعالي الذي لا يحسن سوى الصراخ والتوتر والتهور في اتخاذ القرارات الهوجاء أو اللامبالاة ؛ ولأن هذا النظام الهجين لا يستطيع حل هذه المشاكل المختلفة بالطرق العلمية والواقعية – وإن كنتُ أعلم علم اليقين بأن وظيفة هذه الأنظمة العميلة هي إيجاد الأزمات بل والعمل على تكثيرها وتفريخها واستمراريتها لإصابة المجتمع العراقي بالشلل التام والعجز الكلي وهذا ما تحقق لهم فيما بعد – ؛ فأنه يلجأ إلى أساليب ملتوية سلبية وطرق خادعة و وهمية ؛ من خلالها يستطيع تنفيذ الاجندات المشبوهة والمنكوسة ؛ وفي الوقت نفسه تخفف عن الجماهير بعض ما يكابدوه من أزمات وصراعات نفسية ، وما يعانون منه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأمنية ؛ كي ينشغل الشعب بهذه المسرحيات ولا يشعر بالظلم والغبن والحيف الذي لحقه بسبب هذا النظام الإجرامي الإرهابي؛ بالإضافة إلى اشغاله بالسيناريوهات المختلفة عن طريق وسائل الإعلام المختلفة والتدليس والتزييف الثقافي؛ كي يتجاهل المواطن مشاكله أو يتناساها أو ينكرها أو يستصغرها أو يموه عليها أو يتنصل منها بإلقاء اللوم على نفسه ومجتمعه لا على حكومته الخائنة ونظامه السياسي العميل ؛ لأن مواجهة المواطن للنظام وكشفه للحقيقة واللعب مع النظام على المكشوف كما حصل في انتفاضة عام 1991 الخالدة ؛ قد يكلف المواطن نفسه بل ومستقبل أهله جميعا ؛ وبسبب هذه التداعيات والارهاصات ارتمى بعض المواطنين في أتون فعاليات ونشاطات حزب البعث المجرم بينما انخرط بعضهم الآخر في الممارسات الدينية ، وراح طرف ثالث يقف على التل كالمشلول لا هو إلى هؤلاء ولا إلى أولئك مذبذب بين بين ، ومن المؤكد أن هذه السلوكيات لا تحل الأزمات بقدر ما تعقدها وتزيد من بقاءها الا انها تقي المواطن شر المواجهة وتداعيات واثار الصدام مع النظام ، وهذه الأساليب تسمى في علم النفس بالحيل الدفاعية ؛ لأنها تدفع عن المواطن غائلة القلق والعجز والرثاء للذات والاحباط والجمود والركود والشلل ، وتهبه شيئاً من الحركة والحيوية والعمل ، و الراحة الوقتية ، وإن تكن راحة وهمية حتى لا يختل توازنه النفسي ولا يفقد أمله في الحياة .
و لكن حين تزيد هذه الأساليب والحيل النفسية الدفاعية عن حدودها المقبولة والمعقولة ، وينطبع عليها الفرد تؤدي به إلى الوقوع في الأمراض النفسية أو العقلية، أو تتحول هي إلى مرض في ذاتها ؛ بسبب التعويض الزائد والكبت والإسقاط والتماهي والنكوص ؛ لذلك كانت مشاهد رؤية المجانين والمختلين عقليا والمرضى النفسيين في مناطق الأغلبية العراقية أمرا مألوفا جدا ؛ فقد كانت الحملات المنكوسة تستهدف الأغلبية العراقية بالدرجة الأولى ثم باقي مكونات الأمة العراقية .
وبما أن النظام الهجين خسر في كل المعارك وفشل في الحفاظ على شمال العراق أو الأراضي العراقية التي تنازل عنها في خيمة العار ( خيمة صفوان ) ؛ وردة فعل الجماهير العراقية الحرة الأبية ضد ادعاءات وشعارات النظام الفارغة عام 1991 ؛ صار يعاني ومنذ حرب الخليج الثانية معاناة شديدة جراء انكشاف حقيقة النظام للعراقيين والعرب والعالم ؛ فقد تبخرت كل شعارات صدام العروبية والبطولية والثورية … ؛ وضاعت شعارات البعث القومية ، إلا أن النظام الهجين لا يستحي ولا يخجل من هذه المخازي والعار التأريخي بسبب خسائره ومجازره ومقابره الجماعية ، فراح يلجأ إلى تلميع صورته التي انكسرت ومرغت في التراب ؛ من خلال الاعلام المزيف والاحتفالات السمجة والمظاهرات الاستعراضية والحركات والتصريحات البهلوانية ، والهتافات الحماسية المصطنعة … ؛ علما أنهم جاؤوا بقطار أمريكي للحكم كما صرح احدهم بذلك ؛ لذلك لو بقى النظام البعثي التكريتي الصدامي الف عام لما سمعنا منه غير الشعارات السمجة والهتافات الكاذبة والمزيد من المسرحيات السياسية وحروب الوكالة الخاسرة والتظاهرات البائسة والمسيرات الإجبارية وأعمال السخرة والتصرفات الهوجاء العبثية ؛ فالبعث يساوق العبث .