عشرون عاماً على سقوط حزب البعث في العراق
ومشروع توثيق ودراسة جرائمهم لم يكتمل
د. قيس ناصر
لقد مرّت عشرون عاماً على سقوط حكم حزب البعث في العراق، إلا أن تركته وآثاره، لا زالت ماثلة في المشهد العراقي المعاصر، سواء من خلال تأسيسه لخراب الدولة، أو من خلال الجرائم التي ارتكبها، بمختلف أعدادها وتصنيفاتها.
وفي هذا السياق، أنَّ السياسة البحثية التي تشتغل على بيان تلك الجرائم التي تعرض لها الشعب العراقي أثناء فترة حكمه، ترتبط بالمسألة الأخلاقية مثلما ترتبط بالجوانب المعرفية، من حيث ادانتها لتلك الجرائم، إلا أن هدفها الاساس هو معرفي بالتأكيد .
ومن الجدير بالذكر، أنه على الرغم من الجهود الحكومية بعد 2003م، ولا سيما ما يتعلق بأنصاف ضحايا تلك الجرائم، ومحاكمة مرتكبيها، إلا أن الجهود المعرفية التي تُعنى بتلك الجرائم، لم تكن كما ينبغي، بل حتى لا يمكن مقارنتها بالجهود المعرفية التي تُعنى بدراسة جرائم الارهاب في العراق، ولاسيما جرائم داعش .
لعل واحدة من الاشكاليات التي تواجه المهتمون بدراسة وتوثيق جرائم حزب البعث في العراق، هي كثرة الأصوات المطالبة بالتركيز على الحاضر ومشكلاته ونسيان الماضي، وهنا ليس تشكيك بتلك المطالب، مع تأكيد القول إن بعضها لها أهداف مستترة تحت هذا القول، وفي الوقت نفسه، إن حتى الاشتغال على مشكلات الحاضر، معرفياً، ينبغي فهمها من خلال الرجوع إلى الماضي، ولاسيما حقبة حزب البعث، إذ أن بعض المشكلات التي تعرض لها العراقيون بعد 2003م، يتحمل جزءاً منها حزب البعث، فالتنظيمات الارهابية التي ظهرت في العراق بعد 2003م، كان البعثيون أما مشاركون فيها أو داعمون لها، وهذا الأمر يعلمه الجميع، ولم يقف الموضوع عند هذا الحد، إذ إلى الان، لم يتوفر لدينا تصوراً واضحاً عن التهجير القسري الذي مارسه حزب البعث لأسباب طائفية احياناً، وعنصرية في أحيان اخرى، وكان نتيجته تهجير مئات الالاف من العراقيين مرة تحت عنوان شعار (التبعية)، ومرة أخرى تحت عنوان (الانفال)، ويمكن القول أن أغلب المشكلات الاجتماعية التي ظهرت بعد 2003م، وانعكاساتها في المجال السياسي والاقتصادي كانت سياسة حزب البعث قد مهدت لها .
لم تقف جرائم حزب البعث عند إبادة البشر ونشر المقابر الجماعية في العراق، إنما شملت البيئة والاقتصاد، عبر ارتكابه الإبادات البيئية، التي غيّرت خرائط العراق الجغرافية، وتوزيع موارده الطبيعية والزراعية، إذ نتيجة لجرائمه، لم يعُد اليوم، ينطبق على العراق القول بأنه أرض السواد (لكثرة النخيل) ؛لأن جرائم حزب البعث قد حولتها الى خرائب وأرض محروقة نتيجة لإباداته البيئية أو لحروبه العبثية التي غامر بها، ولاسيما ما تعرضت له نخيل البصرة .
في هذا المقال، لا نُريد الحديث عن أنواع الجرائم التي ارتكبها حزب البعث وتصنيفاتها، فقد تكفلت به مقالات سابقة، إلا أن ما يهمنا بعد عشرين عاماً من سقوط حكم حزب البعث، الإشارة إلى ضرورة زيادة الاهتمام المعرفي بتوثيق ودراسة تلك المرحلة من خلال الدراسة والبحث، فاغلب الجرائم التي ارتكبت لم تنل الاهتمام الكافي، بتعبير آخر إن مشروع توثيقها ودراستها لم يكتمل وبحاجة الى جهود معرفية كبيرة .
في مجال المتاحف، إلى اليوم لم نجد متحفاً في الوسط أو الجنوب-ينطبق عليه هذا الوصف- مختصاً بتوثيق جرائم حزب البعث، ويحفظ الذاكرة الجماعية للعراقيين، كذلك لم يكن للفن حضوراً فاعلاً في توثيق جرائم حزب البعث، إلا من خلال بعض الأعمال الفنية، وهنا ليس الحديث عن عدد الأعمال الفنية، فربما توجد أعمال حاولت توثيق تلك الجرائم على وفق امكانياتها، إلا أن ما نقصده، هي الافلام السينمائية والدراما الاحترافية التي توثق تلك الحقبة، وبإمكانها الوصول إلى اغلب العراقيين، بمعنى آخر الفلم أو الدراما العابرة للهوية الفرعية المرتكزة إلى الفهم المعرفي .
وفي المجال الأكاديمي العراقي كما تم الإشارة إليه، في مقال سابق، فإن عدد البحوث التي تُعنى بجرائم حزب البعث المنشورة في موقع المجلات الاكاديمية، لا يتجاوز أصابع اليد، بالمقارنة بمئات البحوث التي تُعنى بدراسة التطرف والإرهاب، ولعل واحدة من المشكلات المعرفية التي تواجه الباحث في هذا المجال، هي عدم توفر الأرشيف العراقي الخاص بحقبة حزب البعث في موقع واحد، فبعضه موجود في معهد هوفر أو في مركز تسجيلات أبحاث الصراع في الولايات المتحدة الأميركية، وبعضه الآخر متناثر في المؤسسات العراقية، وما يتم الاشتغال عليه من وثائق وأرشفة، هو جهود لمؤسسات تتحرك وفق امكانياتها .
في السنة العشرين على سقوط حكم حزب البعث في العراق، استذكار ودعوة لزيادة الاهتمام المعرفي في تلك المرحلة التي غيرت مسار الدولة العراقية المعاصرة، فحكمهم لخمس وثلاثين سنة، كانت كافية لأن تجعل منه دولة للمقابر الجماعية وجمهورية للخوف، كما أطلق عليها أحد الباحثين .