ataba_head

معايير مواجهة الفكر المتطرف

  • معايير مواجهة الفكر المتطرف
    د.أسعد عبد الرزاق الأسدي
    كلية الفقه- جامعة الكوفة

 

 

يتسم عالم الأفكار بطابع من التداخل والتماهي فيما بين القضايا التي تشغل الفكر البشري ؛ لذا فإن عملية الفرز والتمييز بين الأفكار والتصورات تستدعي قدرا بالغا من الدقة في تحديد معالم كل منحى أو تصور يفترض اختلافه مع منحى آخر, وعندما يتم تناول التطرف في أي فكر أو اتجاه تتضح صعوبة تحديد المصاديق والوقائع التي يمكن أن تصلح كتمثلات وتجليات للتطرف أو ما يقابله في عالم المفاهيم من اعتدال أو وسطية.

ويكثر في الوقت الراهن تناول مواجهة الفكر المتطرف, ويكتنف هذا التناول عدم الدقة في تحديد التطرف من جهة, وفي تحديد مواجهته من جهة أخرى, وإذا كان التطرف واضحا من خلال الوقائع التي تشهد على حضوره في بعض البيئات الفكرية المتشددة وما أرزته من نتائج خطرة, فما هي المعايير اللازمة لمواجهة التطرف؟ وهل ثمة مرجعيات حاضرة في الذهن يمكن من خلالها أن نحدد ما ينبغي عمله تجاه الفكر المتطرف؟

تمثل عقيدة أي مجتمع جزءا مهما من هويته, ومن الأمور التي يسعى المجتمع إلى تأمينها هي أفكاره ومعتقداته وما يؤمن به, لذا فإن الأمن الفكري حق اجتماعي لأنه يرتبط ببنية المجتمع وتماسكه, ومهددات الأمن الفكري تارة تكون خارجية كما في الغزو الفكري والثقافي, وأخرى تكون داخلية, وهو ما يتم تناوله في ها المقال.

والمهددات الداخلية على نوعين:
الأول: الفتن الطائفية والخلافات المذهبية, والتي تحدث غالبا بسبب عوامل سياسية.
الثاني: حدوث متغيرات في العقيدة وهذه تتخذ منحيين:
المنحى الأول: الذي يأخذ جانب التفريط العقدي, كما في الإلحاد واللادينية, بمعنى الانسلاخ عن العقيدة ومغادرة المعتقد.
المنحى الثاني: الذي يأخذ جانب الافراط العقدي, وهذا ما سيتم التركيز عليه في هذا المقال, وهو ما يمثل الانحراف العقدي, وربما لم يتضح الفرق بين الملحد والمنحرف عقديا أو ربما ينبغي تحديد الفارق بينهما..

هنا تتم المحاولة على وضع معايير أولية لمواجهة التطرف الديني –ضمن المنحى الثاني-, ويمكن تحديد أهم معايير مواجهة الفكر المتطرف عبر ملاحظة أهم الكليات التي يمكن أن تعد من أولويات الدين, ويتم استجلاء ذلك عبر متابعة فاحصة ودقيقة للتجربة التاريخية التي خاضها الرسول الأكرم محمد (ص) والأئمة من بعده عليهم السلام والصحابة النجباء رضي الله عنهم, والفقرات في أدناه تمثل مرجعيات ونقاط مركزية تعمل على الممانعة من الانزياح والميل نحو التطرف من ناحيتي الافراط والتفريط على حد سواء.

1- الوعي بروح الدين وغاياته

 

إن تحديد غايات الدين وأهدافه يمثل معيارا مهما في بناء وعي معرفي قادر على محاكمة الفهم والتصورات التي ينتهي إليها الفكر الديني, من قبيل مكانة الإنسان وأهمية حفظ النفس وصيانة الكرامة الإنسانية , وهنا يجدر تناول الفهم الكلي للدين, ومن دونه سوف تغيب المساحات المشتركة التي يمكن أن ننطلق منها نحو الاتفاق على فرضيات المواجهة, ولا يمكن تمكين التفكير حول مواجهة الفكر المتطرف من دون فهم أهداف الدين وغاياته, سواء على مستوى المعرفة العقدية وما تتطلع إليه من تصور حول الكون والوجود, أو على مستوى التشريع وما يتطلع إليه من تحقيق أهم مقاصد الدين.
2- وعي التداخل العلمي والمعرفي بين تخصصات المعرفة الدينية وبقية المعارف الإنسانية :
إن عزل الدين أو المعرفة الدينية عن المعارف الأخرى قد يؤدي إلى التطرف, لذا كان من الضروري الاحتكام إلى المساحات المشتركة بين الحقائق الدينية الثابتة من جهة والمعارف الإنسانية التي تكتسب نسبة عالية من الاتفاق, من جهة أخرى, لتكون تلك المساحات المشتركة إحدى المرجعيات المعرفية التي يمكن أن تحاكم في ظلها التصورات والأفكار والطروحات المتعلقة بالدين.

3- تحديد القيم كمرجعية لحاكمية النصوص على بعضها:
يمثل توظيف النصوص الدينية (قرآنا وسنة) إحدى مشكلات التطرف, إذ يتوسل الفكر المتطرف ببعض النصوص لتسويق أفكاره, ومن هنا بات من الضروري الفرز بين النصوص الحاكمة والنصوص المحكومة – من دون الضرورة إلى التمسك بمصطلح النسخ- ويأتي الفرز على أساس كون بعض النصوص تستبطن معنى قيميا اخلاقيا بنحو كلي, وبعض لا يستبطن قيما كلية وإنما قيما إجرائية أو مرحلية, فعلى سبيل المثال يمكن عد آيات السلم والتعايش -بما تستبطن من قيم عليا- آيات حاكمة على الآيات التي تحمل معاني العنف والقتال, مما يفضي إلى محورية وأصالة آيات السلم, وعرضية آيات العنف والقتال, والحال نفسه بالنسبة للمرويات.
4- وعي التنوع المعرفي والثقافي والديني
يعد الاعتراف الضمني بالتنوع والتعدد بشتى مجالاته معيارا مهمًا يرجع إليه في محاكمة وتقويم التصورات والقراءات حول الفكر الديني عموما, ومع غض النظر عن تداعيات فكرة التنوع والتعدد, فإن قدرا ما يمكن أن يفي بغرض تحديد المعيار, وهو الاعتراف الضمني بوجود الآخر, كأمر واقع, ومن ثم عدم الاعتباط في تقرير الموقف منه وكيف يتم التعامل معه, وتوخي جانب الدقة والاحتياط في مسائل تتعلق بحقوق وواجبات الآخر.
5- تحديد الأولويات الفقهية وتحديد الصلاحيات:
تمثل المعرفة الفقهية بوابة مهمة في صياغة المعارف الدينية وتجليتها على الواقع العملي, لذا كان لابد من تحديد الأولويات الفقهية التي توجه الاستنباط والبحث الفقهي بما يحفظ السلم المجتمعي, ومن جهة أخرى تحديد صلاحيات التطبيق لجملة من الأحكام  الثابتة وتجنب الاعتباط في تنفيذها أو تطبيقها من قبيل التكفير والردة والعقوبات, بحيث تناط تلك المسائل إلى جهات عليا من قبيل المرجعيات أو مجالس القضاء أو الحكومات ذات الصلاحيات المشروعة من دون منح أي صلاحيات لأي جهة فردية أو فئوية في أخذها زمام الأمر حول تنفيذ بعض فقرات التشريع التي يمكن أن تتسبب في فوضى عنف.
6- الأمن الفكري

يمكن أن يمثل الأمن الفكري هاجسا إيجابيا في مراجعة مخرجات الفكر الديني ومحاكمتها بما يحفظ الأمن الفكري والنظام العام على وفق الفقرات في أعلاه, ويتم ذلك عبر تحديد مكامن الخطر في الفكر المتطرف من جهة, ومن جهة أخرى عبر ملاحظة الأمن الفكري كضابطة موضوعية تحكم التصورات والطروحات التي يمكن أن تغذي التطرف, وربما يعد الأمن الفكري من وظائف الدولة, لكن المؤسسات التي تعمل على دور مواجهة التطرف يمكن أن تفعل الأمن الفكري في أدنى مستوياته عبر أنشطتها المختلفة التي تستقطب الفئات المفكرة والمثقفة في المجتمع.
إن مجتمعنا اليوم يتعرض إلى تلك الانحرافات بنحو غير لافت ويسري ببطء وخفاء بين فئات اجتماعية بسيطة, وهو ما تمثل بظهور بعض التيارات المنحرفة باسم الدين والتي من غير الممكن التصريح ببعض منها، بل تكفي الإشارة إلى بعض سماتها من قبيل ظهور من يدعي النبوة أو المهدوية أو بعض الحركات التي تضرب مسلمات مهمة في الاعتقاد الديني، وإذ نسلّم ببعض الاختلافات المذهبية التي استقر المجتمع على استيعابها واحتوائها والتعايش معها على أساس التنوع العقدي والتعدد المذهبي, فظهور الجديد الطارئ يختلف بالطبع عن الموجود والمستقر سلفاً..
إن موضوع الأمن الفكري ذو مديات واسعة وهامة تستدعي بحثا مستقلا, لكن قدر تعلقه بمفردتي الالحاد والانحراف العقدي هو ما تم التركيز عليه في هذه السطور, آملين أن يلقى الموضوع اهتماما بالغا من الجهات المعنية, من مؤسسات دولية أو إعلامية أو دينية.