banarlogo

وقفة السيارة الحمراء المخيفة .

وقفة السيارة الحمراء المخيفة .

د. حسنين جابر الحلو.

 

قرابة الخامسة عشر ، وأنا دائم الذهاب إلى جامع المنطقة التي أعيش فيها بالقرب من مرقد كميل بن زياد ” عليه السلام ”  ، ولاسيما في أوقات الظهرين والعشائين،  لأُعيد ذاكرة الآباء والأجداد في المواظبة على الجماعة .
وبينما أكمل الصلاة ، وأغادر إلى المنزل حتى في بعض أوقات صلاة الفجر ، أرى دائما سيارة حمراء نوع ” لاندكروز” وهي ذاهبة وغادية في حيّنا .

الوجوه التي تركب السيارة غريبة  عن مدينتنا،  وذات مرة سمعتهم يتكلمون ، وأيضا لهجتهم بعيدة عنا .
سجن والدي في إحدى سجون المقبور لفترات مختلفة ، واحدة منها اضطررنا إلى ترك حينّا والذهاب إلى آخر بعيد عن الأول في المسافة والمساحة.
ولكن ، السيارة الحمراء ذاتها ، تتجول في منطقتنا الجديدة ، وتمشطها،  كأنها زائر جديد ، ومما أثار استغرابي أنها تقف في بداية الحي ، تبحث في الوجوه، علها تجد شهيدا قد رجع إلى بيته من غير أن يستأذن السلطة !
وبعدها ، وفي ليلة معتدلة البرودة ، خرج أخي الأكبر الذي يكبرني بتسع من السنين  ، وكان حينها طالبًا في  الإعدادية، إلى جيراننا والتقى بصديقه الذي كان قريبا من عمره .
الفطرة ، قادتني أن أذهب وراءه ، وماهي إلا دقائق معدودة ، والسيارة الحمراء تعتقل أخي وصديقه ، وتقودهما إلى المجهول ، لم أر في عتمة الظلام سوى يد أخي وهي تلوح يمينا وشمالاً طالبة النجدة .
يا إلهي،  ماذا عساني أن أفعل ، هل أذهب .. إلى من ؟ فركضت حافيا إلى بيت جيراننا ، وأخبرت والد صديق أخي بالقصة،  فانتفض مسرعا،  ليركب  سيارته ” الفولفو ” موديل ١٩٧٣م ، وقال لي لا تقلق سأرجعهما.
كان هذا الموضوع قرابة العاشرة مساء ، في الساعة الحادية عشر،  أخرجت رأسي من باب الدار ، وإذا بالسيارة ذاتها ” الحمراء ” تقف في المكان ذاته معلنة الانتصار.
بقى القلق يساور كل أفراد العائلة ، لم تغمض لنا عين ، أو يسمع لنا صوت ، إلا التسبيح والدعاء والختومات التي ملأت البيت في أشجارها وأغصانها .
في الرابعة فجرا ، عاد أخي ومعه صديقه ، يجر الحسرات والويلات،  ويتنفس طعم الحرية،  في زمن لا حرية فيه ، ابتسم ابتسامة خفيفة ، وقال لي هل كنت خائفا ؟ قلت له : خفت ألا تعود .
ثم أطرق برأسه قائلا  ، لا تأمن السيارات الحمراء،  لأنَّها مخيفة في سيرها وأكثر في وقوفها .
لأنها إن وقفت رصدت وكتبت وضيعت،  وإن سارت تأخذ معها خيرة الشباب من الملتزمين ؛ لأن لهم فكرا وعقيدةً ، وقوة في المنطق والحجة ؛ لذلك بقيت السيارة الحمراء تدور حيث يدورون حتى سقوطهم سنة ٢٠٠٣م .