فاعلية (فلم ابن بابل) في توثيق جرائم حزب البعث
د. قيس ناصر
جامعة البصرة
على الرغم من تفاعل الفنانين العراقيين مع موضوعات وطنية عدة, إلا أنَّ توثيقَ جرائم البعث لم ينل اهتماماً كافياً في أعمالهم الفنية, سواء التي توثّق المقابر الجماعية, وأساليب الاعتقال, والسجون, أم تقييد الحريات, والقائمة طويلة بتلك الجرائم, بمعنى آخر غياب الفنان الذي ينقل ويُصور ما جرى.
وعن هذا السياق, يستثنى فلم (ابن بابل) الذي أُنتج في 2009م, وهو من إخراج محمد الدراجي, الفلم يتحدث عن قصة من ملايين القصص التي تروي جرائم حزب البعث في العراق .
تبدأ أحداث الفلم مع نيسان 2003م, قصة حفيد(اسمه أحمد) يرافق جدته اسمها (أم إبراهيم) بحثاً عن أبيه اسمه (إبراهيم)-على أمل لقائه بأبيه- لا يخفي الفلم معاناة العراقيين بداية الاحتلال الأميركي, إلا أنَّ كل ما حصل هو نتيجة سلوك صدام .
يبدأُ الفلمُ بمشهد صلاة الأم وهدوئها, ومشاكسة الحفيد وتعلقه بالموسيقى ومناداته وسط النفق بكلمة أبي, رحلة الفلم تبدأ من قرية نائية في كوردستان العراق –شمال العراق-باتجاه الناصرية –جنوب العراق-, الطفل يسأل السائق عن الجنائن المعلقة, والسائق يخبره بأنه سيتصل بصدام الوغد كما وصفه, في إشارة إلى أنه سيذهب إلى المرحاض, والمكان المناسب لصدام هو المرحاض, هذا القول الذي سيكرره الحفيد أحمد, حينما يحتاج الذهاب إلى المرحاض لاحقاً, عبر قوله (أريد أن أسلّم على صدام) .
لا أريد سرد أحداث الفلم, لكن استوقفني قول الأم (حينما نفقد أحد أبناءنا نفقد جزءاً فينا), هذا القول تعبير حقيقي عما حصل للأمهات اللواتي فقدن أبناءهن, باختصار, يصف الفلم ضحايا الكورد, في الأنفال, وضحايا العرب وغير العرب من ويلات صدام .
الحفيد أحمد يتذمر من تكرار طلب جدته للمرة المئة- كما قال-, قراءة رسالة من شخص تَعرّف على ابنها يخبرها فيها بأن ولدها اعتقله حزب البعث واقتادوه إلى السجن في الناصرية .
الفلم دائما ما يشير في مشاهده إلى حضور الدين من خلال الصلاة والمسجد, ودورهما في صناعة الأمل والسكينة والسلوى للأم, الأمر الذي تحاول أن تنقله لحفيدها, فضلاً عن ذلك يحتوي الفلم على مشاهد من إرث العراق الحضاري سواء مع الزقورة, أو بابل .
تصل أم إبراهيم إلى سجن الناصرية موقع المكان الذي سُجن فيه ابراهيم, كما ذكرت الرسالة التي وصلت الأم بعد رحلة من كوردستان مروراً في بغداد, الرحلة التي تصف قصة الوجع العراقي, وجع الأمهات وهن يبحثن عن أمل أخير في رؤية الأبناء, قصة أحزان العائلات العراقية اللواتي فقدن الأحبة في سجون البعث.
لم يغب عن الفلم التعبير عن أساليب حزن الأمهات الثكالى عبر الأمهات الجنوبيات, التي توقفت عندهن أم إبراهيم الكوردية من دون أن تعرف لغتهن, إلا أنها فهمت معناه؛ لأن لغة الألم والمأساة لغة عالمية لا تحتاج إلى مترجم لفهمها .
وصلت مشاهد الفلم إلى لحظة السؤال وانهيار الأمل بوجود ابنها حياً, بعد أن نصحهم أحد المسؤولين بأنه غير موجود في القوائم المتوفرة في سجن الناصرية, مشيراً عليها بالذهاب إلى مقابر جماعية اكتشفت مؤخرا, هنا انهار الحفيد (أحمد), صارخاً باحثاً عن أبيه متجولاً في مكان السجن, والأم أيضاً, توجهت نحو بقايا السجن, الذي ملأت جدرانه قوائم السجناء الذين كانوا فيه, هذا المشهد انتشر في الواقع بشكل كبير بعد نيسان 2003م.
تناديه الأم دون جدوى…إبراهيم ابنك كبر وزوجتك في انتظارك-على الرغم من وفاة الزوجة-, كأنها تنتظر منه الإجابة حينما تخبره بهذا الأمر, وبعد أن شمت تراب السجن وشعرت بأن ابنها كان فيه, استسلمت لما أُخبرت به من الشخص المسؤول, وتوجهت نحو المقابر الجماعية باتجاه بابل, على أمل الحصول على جثة ابنها .
الفلم كما ذكرنا يُعبر عن لحظة نيسان 2003م التي اكتشف فيها لوحدها أكثر من 300 مقبرة جماعية, وتشابهت فيها وجوه الأمهات والآباء الثكالى, بفقدان أحبائهم, الحزن والألم الذي لم يميز بين من ينتمي لشمال العراق أم لجنوبه, وهم يبحثون عن أحبتهم من مقبرة إلى أخرى, تجلس الأم عند إحدى الجثث ناعية باكية بحزن شديد, لم تكن جثة ابنها, إلا أنها وجدت تشابه بالعمر بين عمر ولدها وصاحب الجثة, وبمعنى آخر اشارة إلى الظلم والجريمة التي لم تميز بين ابنها وجثة الشاب الآخر في المقبرة الجماعية .
يبقى الفن رسالة إلى العالم أجمع, والفلم تضمن قصة واحدة من ملايين قصص الظلم التي تعرض لها العراقيون من حزب البعث المقبور, وينبغي أن يكون له –أي الفن- حضوراً فاعلاً في توثيق ما جرى, ووضع الوسائل التي تمنع تكرار ما حدث .