ataba_head

الحصار الاقتصادي على العراق بوصفه جريمة إبادة جماعية

الحصار الاقتصادي على العراق بوصفه جريمة إبادة جماعية

الأستاذ المساعد الدكتور

رائد عبيس

جامعة الكوفة

كثيرة هي القصص التي مرّت على العراقيين , في زمن الحصار وحقبته السوداء, وكانت بعيدة عن رقابة الأمم المتحدة, والفرق الإنسانية, ومنظمات حقوق الإنسان, والمنظمات الصحية, ومنظمات الرعاية بالمرأة والطفولة, ومنظمات الغذاء والإغاثة. فلم تعي كل تفاصيل جريمة الحصار الاقتصادي خارج توصيف كونه عقوبة للنظام. وبعيداً عن كونها إجراء سياسي بالدرجة الأساس ضد نظام حكم وسلطة, كانت هي الأقرب إلى معاقبة شعب بأكمله, وتدمير كل طاقاته , بقصدية واضحة , وحجج مصطنعة, قد سبقت الحصار , مثل : غزو  الكويت, وأسلحة الدمار الشامل , وتهديدات النظام على الأمن الاقليمي والدولي.

أكبر المآخذ على الأنظمة الإنسانية ومنظمة الأمم المتحدة, والأمم المتحدة التي تتحكم بها, كان بالسكوت عن جرائم البعث ضد الإنسانية, وجرائم الحرب, ضد سكانه, وجيرانه, وجرائم الإبادة , وإضافة إلى هذا السكوت هو  دفعها إلى إضافة إبادة جديدة, قد تكون غير واضحة لكثير من الأنظمة والمنظمات, أو تكون بتجاهل مقصود لكل معالم هذه الجريمة الصامتة, وهي جريمة إبادة جماعية اقتصادية وصحية.

فالإبادة الجماعية الاقتصادية : هي جريمة تُرتكب بحق شعب ,بدوافع مختلفة, وتتخذ من اقتصاد الفرد, واقتصاد المجتمع, واقتصاد الدولة, طريقاً لتجويع الشعب, عبر تدمير كل مقدرات الاقتصاد, ومنع الاستيراد, وحظر السلع, وتدمير الحركة التجارية وتقيدها. وحرمانه من السلع الأساسية في العيش, حتى تحقق سوء التغذية, وبعدها المجاعة, ومن ثم الموت. وقد تحقق الموت الفردي والجماعي, بفعل هذه السياسة ,من قبل نظام البعث ,ومن قبل من فرض على الشعب العراقي بسببه هذه السياسة القاتلة.

تسبب الحصار الاقتصادي بتدمير كل طاقات الفرد العراقي الواعية , وحصرها بالتفكير بالجوع , والشبع, والعلاج.  وكأنما الكوجيتو الديكارتي القائل : “أنا أفكر إذن أنا موجود” انقلب وتعطل ,و أصبح كوجيتو عراقي خاص يقول : أنا آكل إذن أنا موجود”  “أنا أشبع إذن أنا موجود”. بات التفكير بملأ المعدة والأمعاء, همّا , ومصدر تفكير, وجشعا, وصراعا , وتنافسا, وشراسة, وتماديا, وقتلا , وسرقات, وذلا, وخنوعا, وحيلة, ومكرا, وخداعا, وتلاعبا, وغشا, وفسادا, ورشوة… وباختصار صاحبه انهيار لمنظومة القيم الاجتماعية المتعارف عليها من كرم ,وبذل, وتعاون.

تحقق بفعل قساوة الحصار الداخلي والخارجي ,إبادة ثقافية لعادات عراقية أصيلة في التعاون, والإيثار, كانت جزء من الفلكلور العراقي, والعادات الاجتماعية الأصيلة.

إلى جانب الأثر البايولوجي  الأكبر الذي يتعلق بالنمو, وسوء التغذية, والجوع. قد طال هذا الواقع الغالبية من الشرائح المجتمعية, والفئات الاجتماعية الأكثر ضرراً من نساء وأطفال الذي تمثل بهم الجوع إلى حد الهزالة والموت, وقد خسر العراق ما يقاب من مليون طفل بين المرحلة الجينية بحالات الإجهاض أو بين الأعمار  الأقل من 10 سنوات. قد تعددت مسببات هذه الخسارة بين سوء التغذية, والجوع, وسوء العلاج, وانعدامه.

وصفت جريمة الحصار الاقتصادي على العراقي على أنها إبادة جماعية متعددة الأساليب, وقد ذكر مثل هذا التوصيف في كثير من الشكاوى المقدمة إلى الأمم المتحدة , ضد الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتعاونة معها, في فرض هذه العقوبة ضد الشّعب العراقي. كان المدعي الأمريكي رامسي كلارك أول من قدم شكوى جنائية ضد هذه العقوبة التي تسببت بإبادة ناعمة وصامتة بحق الشعب العراقي.

كان الحصار الاقتصادي الصارم المفروض أو المختار بفعل نظامه السياسي البعثي المجرم ,بإيذاء الشعب بأكمله, وقتل أضعف أفراده, من الرضع, والأطفال, وكبار السن, والمصابين بأمراض مزمنة ، وذلك بحرمانهم من الأدوية ، ومياه الشرب والطعام, والضروريات الأخرى .

الإبادة الجماعية التي تتسبب بها سياسة التجويع المتعمدة والمقصودة, في إلحاق الأذى بحق الآخرين من أفراد وجماعات, والتي قد ينتج عنها موت أو هجرة, أو تعطيل يؤدي في ما بعد إلى موت جانب معين من جوانب حياة البشر. كانت تمثل تأكيد على أن “مصطلح الإبادة الجماعية” ممكن أن يتحقق بالأفعال غير التقليدية في حدوث الإبادات الجماعية عبر القتل وغيرها. وهذا ما أثار النقاش والجدل بين علماء الإبادة الجماعية, المتمسك بعضهم بالأنماط التقليدية للإبادة الجماعية, أو بالأنماط الجديدة والناعمة في تحققها.

يرى بعض الباحثين والعلماء المختصين بالإبادة الجماعية  ومنهم آدم جونز أن كل فعل مؤذٍ ومضر بجماعات من البشرية إلى حد الموت , يعد فعل إبادة. ومن كان مراقب منهم للشأن العراقي وتداعيات الحصار الاقتصادي على طبيعة الحياة السكانية فيه, كان يستنتج منه أنه فعل إماتة مقصود, وهذا ما يحقق تقارب واقعية المصطلح على نموذج الحصار المفروض على العراق.

ومثل هذا الوعي لظروف الشعب العراقي جراء الحصار , دفعت دينيس هاليداي منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق في عام 1998 ، الى الاستقالة بعد أن شهد تأثير العقوبات بشكل مباشر – وطابعها الإبادي.  وقد أكد هذا الموقف تصريحه في العام التالي لاستقالته بقوله : “شعرت …أنني تجاوزت خطاً غير مرئي من عدم اللياقة”.

ومع هذه الواقعية, إلا أن كثيراً من الواجهات الإعلامية والمؤسسات بقيت تتحفظ على استعمال “مصطلح الإبادة الجماعية” كنتيجة لحصار اقتصادي أو أثر عقوبات تجويع . ولا شك أن مثل هذا الرفض كانت له أسباب تتعقل بتلميع صورة الأنظمة, والدفاع عن القرارات السياسة التي راح ضحيتها أبناء العراق.