ataba_head

الفكر المتطرف وإبادة التراث الثقافي الإنساني

الفكر المتطرف وإبادة التراث الثقافي الإنساني

أ.د. حسين الزيادي

 

 خلّفت الحضارات الغابرة العديد من الآثار والشواهد التراثية التي بقيت شاهدة عليها، ودالَّة على حضارتها وما كان يتميز به أبناؤها من إبداع في العمارة والفنون، والفلسفة، وتعد هذه الاثار ملكاً وارثاً انسانياً، تبذل الدول قصارى جهدها في سبيل استدامتها والحفاظ عليها، فهي فضلاً عن كونها ارثاً عالمياً فهي حق للأجيال القادمة، ومصدراً اقتصادياً مهماً يتمثل بالسياحة الاثرية والبيئية،  وللتراث الثقافي أهميته في الحاضر بوصفه رسالة من الماضي وطريقاً إلى المستقبل في الوقت نفسه، ومن منظور حقوق الإنسان، يكتسي التراث أهميةً ليس في حد ذاته فحسب، وإنما أيضاً في علاقته مع البعد الإنساني ولا سيما أهميته بالنسبة للأفراد والمجموعات وهويتهم وعمليات تنميتهم، وكما يقال: تبقى الأمم على قيد الحياة ما دامت ثقافتها على قيد الحياة.

  آيديولوجية التنظيمات المتطرفة تنصُ على أن المعالم التراثية والآثارية بدع تتعارضُ معَ أساسيات الشريعة، بل أن وجودها دعوة الى الشرك، لكن عندما تصطدم المصالح الشخصية مع  الآيدلوجية، فإن تلك التنظيمات تغلب الجانب الشخصي على ما تؤمن به من مبادئ، وللتدليل على تغليب الجانب الشخصي فقد عمد تنظيم داعش ابان سيطرته على اجزاء من الأراضي السورية والعراقية إلى نقل الآثار التي نهبها من مناطق سيطرته إلى أوروبا لبيعها، إلا أنه فشل بعد عدة محاولات، لان اغلب تلك الاثار مسجلة ضمن التراث العالمي ومعروفة في الوسط الدولي، فلم يجد التنظيم المتطرف حلاً إلا الذهاب إلى خيار تدميرها ومعاقبة من يتاجر بها، كما ان التنظيم المتطرف كان يعمد إلى تفجير أو تجريف المواقع لإخفاء معالم السرقة التي يقوم بها.

  في ضوء الأحداث المتعلقة بسيطرة التنظيم على اجزاء من اراضي العراق، وقع أكثر من 1700 موقع أثري وديني في الموصل تحت سيطرة التنظيم بين عامي 2014 و2017، وقد تم نهب وتخريب معظمها، وقام التنظيم المتطرف بأحداث صدمت ضمير العالم منها وأضرحة الأنبياء يونس وشيت وجرجيس، وتخريب متحف الموصل، وتدمير الآثار الأشورية في نمرود ونهبها وتفجير قبة الحسينية الشيعية، مسجد سعد بن عقيل وبعض المساجد الشيعية في الموصل، ومسجد الأربعينية تكريت الذي يحتوي على قبور 40 من رُفقاء عمر بن الخطاب، واستهدفَ داعش العديد من المقابر مع الأضرحة التي بُنيت عليها حيث دمر في تموز من عام 2014  ، ثم دمّر في 27 تموز قبر النبي جورج في نفسِ المدينة، فضلاً عن تدمير المواقع الأثرية كقصر سنحاريب والمتحف الوطني، إضافة إلى تجريف جميع بوابات مدينة نينوى الأثرية وأسوارها كبوابة نركال وأكد وشمس..

في 25 تموز عام 2014؛ دمر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مرقد الإمام عون الدين في الموصل الذي يُعد واحدًا من هياكل قليلة جدًا قد نجت من التدمير خلال الغزو المغولي، وفي عام 2015؛ أفادت وكالة أنباء سبوتنيك الروسية أنّ داعش قد جرف مسجدًا في الموصل يعود تاريخهُ إلى عام ، وأحرقَ التنظيم المتطرف مجموعة من المكتبات فيما سرقَ أخرى من مواقع مختلفة بما في ذلك المكتبة المركزية في الموصل والتي دمرتها بالمتفجرات وكذا مجموعة من الخرائط والكتب التي تعود لعصرِ الإمبراطورية العثمانية ومجموعات كتب أخرى.، علماً ان بعض الأعمال التي سُرقت يعود تاريخها إلى 5000 سنة قبل الميلاد وتشمل بعض الصحف العِراقية التي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن العشرين .

ومن الجوانب الرئيسة التي تشير إلى جرائم التنظيم  المتطرف هو:  تدمير مواقع التراث الثقافي الأيزيدي والتراث الكاكائي، ولاشك ان تدمير التراث الثقافي للأقليات إلى جانب كونه جريمة دولية بحد ذاتها، يمكن أن يكون بمثابة دليل لإثبات النية في ارتكاب الإبادة، ومن هنا بات من الضروري تفكيك الفكر المتطرف الذي يشكل خطراً على التراث الانساني بكل ما يحتويه من جوانب وإنجازات مادية ومعنوية ، ووفقاً لنص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تجوز المحاكمة على الهجمات التي تستهدف عمداً المباني المخصصة للشعائر الدينية أو للأنشطة التعليمية أو الفنية أو العلمية أو للأعمال الخيرية، والمآثرَ التاريخية ، شريطة ألاّ تكون أهدافاً عسكرية في نزاع مسلح، دولياً كان أو غير دولي بوصفها جريمة حرب.

ولم تقتصر جرائم التنظيمات المتطرفة على مستوى العراق ، كما لم تقتصر جرائم التنظيم على طائفة دون اخرى فقد استهدفت عناصر التنظيم عددا من المواقع الأثرية لطوائف مختلفة، وهي بالأساس مزارات وأضرحة صوفية،  مثل ضريح الشيخ عبد السلام الأسمر في مدينة زليتن ومسجد سيدي الشعاب الدهماني في العاصمة طرابلس الليبية.

وعلى مستوى العالم الإسلامي فإن أحد أشهر المعالم الأثرية في أفغانستان قد تعرضت للتدمير المتعمد وهما: تمثالي بودا العملاقين قرب مدينة باميان، وسط البلاد، اللذين يرجع تاريخ بنائهما إلى أكثر من 1500 سنة، بدعوى أنها أصنام، ويعتبر تفجير التمثالين واحدا من أسوأ الجرائم التي طالت المواقع ألاثرية في العالم.