ataba_head

مبادئ أولية عن توثيق جرائم التطرف

مبادئ أولية عن توثيق جرائم التطرف

د. قيس ناصر

جامعة البصرة

 

 

 

   في كلِّ عملٍ معرفيِّ, هناك مبادئ ينبغي الارتكاز إليها, وحينما نقول “مبادئ”, فهذا يعني الاقتراب من أخلاقيات المهنة ؛ لأنَّ التوثيق بشكلٍ عام وتوثيق جرائم التطرف بشكل خاص, بالنتيجة هو مهنة, إلا أنها تحمل طابعاً إنسانياً, الذي من الواجب أن يكون, هو, هدف العمل أكثر من أي هدف آخر .

   أحد المبادئ الرئيسة التي ينبغي توفرها عند الموثّق لجرائم التطرف, فضلاً عن الإعداد الفني له- مع التأكيد أنَّ الحديث هنا غير مخصص للجوانب الفنية – هي المعرفة العامة بالعلوم: السياسية, القانونية, الاجتماعية, الفلسفية, بل حتى الشرعية؛ وذلك لأنَّ هذه العلوم أو المعارف تمنح الموثق رؤية ثقافية تساعده على التشخيص والفهم, فضلاً عن ذلك, أن الحصول على الوثيقة وقراءتها, وفهمها, مهم جداً, فإن لم تُفهم فستكون بلا فائدة, لهذا ينبغي التحقق من صحتها, وهذه الأمور من المستحيل أن ترتجل ارتجالاً بل لابد من تعلمها, بمعنى آخر ينبغي أن يكون اعداد الموثق من خلال البناء الثقافي العام, لتزويده بالمعارف الساندة لعمله, ومن أجل اختصار عملية التوثيق يفترض أن يكون هناك فريق مختص من مجالات معرفية متعددة, ولا سيما التي ذُكرت سابقاً, ويمتلك رؤية وتدريب وممارسة في عملية التوثيق, وهذا الحديث يأخذنا إلى البحث عن ما ينبغي أن يكون عليه الموثق, أي ما الصفات التي يتصف بها الموثّق؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط الآتية:

1-الشغف بالعمل, فهو مثله مثل أي عمل إن لم يكن هناك شغف به, فلا يحقق نتائجه .

2- ينبغي التأكيد أن تتم مراحل عمل التوثيق بعيداً عن الميديا, ولا سيما إن كانت الجرائم التي يُعمل على توثيقها قريبة العهد, بمعنى آخر ينبغي أن يظهر العمل التوثيقي لا الموثق للعمل, لأن أحد اعداء الموثق هو الظهور الإعلامي, فالظهور ربما يساهم بإبعاد الموثق عن الحقيقة .

3- إن عمل التوثيق يحتوي على أبعاد إنسانية, أحدها المساهمة في انصاف الضحايا, وهذا البُعد يُعد هدفاً رئيساً للتوثيق .

4- ينبغي عدم الاستعجال والاندفاع, ومنح الوقت الكافي للرصد, لأن العجلة والاندفاع مصدر لأخطاء لا تعد ولا تحصى, وهنا ينبغي الاهتمام بفضيلة الصبر, وهذا الأمر يتعلق بتوثيق الجرائم السابقة أو الانتهاكات والجرائم الراهنة التي يسعى إلى توثيقها, فالرصد مقدمة مهمة لتوثيق الجرائم الراهنة  .

5- ينبغي ملاحظة أن أصحاب المزاج العصبي, الشديد الانفعال, المستعجلون دائماً, لإنهاء العمل, الذين لا يمتلكون رؤية استراتيجية, والمولعون بالظهور وإحداث الضجيج الإعلامي لا تنفعهم هذه المهنة, فالعمل هنا يحتاج إلى هدوء الطبع والتحفظ والاحتياط, مع تأكيد القول إن هذه الأمور من الصعب تحققها بشكل كامل, ولا سيما في الدول ذات النظم السياسية المتغيرة, لكن, وفي الوقت نفسه, أن جرائم التطرف تنشط في ظل هذه النظم, وهنا يأتي دور المؤسسة التي ترعى التوثيق في توفير البيئة المناسبة للموثق أولاً, والدقة في اختيار الموثق ثانياً, وثالثاً, تبني الاعلان عن العمل الوثائقي المنجز بطريقة احترافية .

6- ينبغي أن يتصف الموثّق بالميل للتأمل العقلي والأمانة ؛ لأنه بالتأكيد سيطلع على حقائق, ينبغي فيها مراعاة أن ليس كل الموضوعات تظهر للعلن, مع التأكيد بأن العمل التوثيقي يحتاج إلى الظهور في الوقت المناسب, لكن كما تم ذكره سابقاً أن لا يظهره الموثق إنما المؤسسة المعنية بالتوثيق, إذ ينبغي على الموثق أن يختار العمل على وفق سيناريوهات متعددة, فضلاً عن وضع الصالح العام, وانصاف الضحايا, ومنع تكرار الجريمة, ركائر لأولوياته, بمعنى آخر الغير أولاً ودائماً, لهذا تجد أن المهتمين في هذا المجال أعدادهم قليلة جداً .

7- لعل النقطة الأخيرة, والمهمة جداً, أن لا يكون الموثّق منتمياً سياسياً؛ لأن هذا الأمر لا يجعله محايداً في توثيقه, بسبب انتمائه السياسي الذي يدعوه إلى إظهار أو اخفاء بعض الحقائق .