ataba_head

التطرف وتوظيفه بحروب الوكالة

التطرف وتوظيفه بحروب الوكالة

د. إحسان محمد هادي

 

لا تعد الحروب بالوكالة ظاهرة حديثة أو حدثا طارئا على عالم السياسة واستراتيجيات الحرب، اذ نجد لها جذر وعمق تاريخي قديم يعود الى أيام الحضارات القديمة التي كانت تدعم بعض الجماعات (الوكلاء) لمهاجمة خصومها الاقوياء، وضرب مصالحهم السياسية والعسكرية، دون ان تضطر للصدام المباشر معها لتحقيق اهداف سياسية باقل التكاليف وبأعلى العوائد الممكنة.

بمعنى آخر أن الحرب بالوكالة عبارة عن دعم لمجموعات مختارة من طرف دولتين متنافستين في أرض دولة ثالثة تسمى “منطقة الصراع”، وخلق نزاع حقيقي فيها من أجل تحقيق مكاسب معينة. حيث نجد أن الدولتين المتنافستين لا تنخرطان في مواجهة وصدام مباشر، بل يعتمدان على تحريك فاعلين رئيسيين في الدولة الثالثة من خلال تنظيمهم تقديم كل الدعم اللازم للمعارضة والتنظيمات والجماعات والأحزاب السياسية، والعمل على تدريبهم وتزويدهم بالأسلحة والذخائر والمعلومات من أجل التأثير في مصالح الدولة المقابلة. ويطلق على هؤلاء الفاعلين الرئيسيين مصطلح “الوكلاء”، أن التكاليف الخاصة بحرب الوكالة من قبل المحركين لها تكون قليلة جداً مقارنة بالحرب التقليدية، فالحرب الفعلية المباشرة متى وقعت فإنها لا تترك أمام أطرافها إلا الخيار بين الاستمرار أو الاستسلام أو بين النصر أو الهزيمة هنا تكاليفها تكون عالية بعكس ما يحدث في ظروف الصراع الوكلاء, وتعد هذه الحروب وسيلة استثنائية في السياسة الخارجية للدول المتنافسة.

 حلت الحروب بالوكالة محل الحروب التقليدية والابتعاد عن المواجهات العسكرية المباشرة، واعادة إحياء الصراعات والنزاعات القديمة من اثنية وطائفية وعرقية وإثارتها وإن طال امدها، ومتخذة بذلك صورا عدة كحروب أهلية أو انفصالية وغيرها, وغلباً ما توصف بالحروب “اللامتماثلة” أي لا تخضع لقواعد الاشتباك كما هو متعارف في الحروب التقليدية لأنها غالباً ما تكون حروب عصابات وشوارع الامر الذي يجعل الجيوش التقليدية عاجزة امامها لان تدريبهم على مواجهة الجيوش المعتدية على الحدود مما جعل الدول انشاء قوة عسكرية مدربة للقتال في مثل هذه الحروب.

ففي هذه الحروب تستخدم فيها الدول مختلف الوسائل الاقتصادية، السياسية، العسكرية، القانونية، الإعلامية، وعبر خطط وسياسات مدروسة مسبقاً قابلة للتطبيق بهدف تحقيق مكاسب استراتيجية عدة. حيث تلجأ الدول إلى دعم مجموعات شبه عسكرية بالمساعدة المباشرة في منطقة ما، واستخدامها في تهديد دولة اخرى منافسة والضغط عليها، وعبر تزويدهم بالسلاح أو التهديد باستخدامهم.

برزت الحروب بالوكالة بقوة في فترة الحرب الباردة ما بين القطبين المتنافسين المتمثل بالمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي, وتعتبر الحرب الأهلية في أفغانستان في فترة من 1979- 1989 خير مثال على بشاعة وعنف الحرب بالوكالة، إذ سلّحت الولايات المتحدة ودربت ودعمت وامدتهم بالخدمات ما أسمتهم بـ”المجاهدين الافغان” لقتال جيش الاتحاد السوفيتي على الأرض الأفغانية، وأمدتهم بأحدث أنواع الاسلحة، مما أدى إلى تكبد الجيش الروسي خسائر فادحة ومن ثم انسحابه من أفغانستان.

بعد ذلك تراجع الاعتماد على الحروب بالوكالة ليترك مكانه لوضع الاستراتيجيات المباشرة وذلك بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن ها هي الحروب بالوكالة تعود بقوة بسبب التحول في النظام العالمي وتطور أساليب المواجهة والصدام ما بين القوى العالمية أو القوى الإقليمية المتصارعة.

يعتبر الخبراء أن عودة الحروب بالوكالة ناجمة أساساً عن المخاض الجيو-سياسي الذي تشهده المرحلة الحالية وتطور علمي وتكنلوجي هائل وما يرافقه من غموض وتصاعد التوترات والمنافسة، الأمر الذي بات يهدد بنشوب النزاعات المسلحة وتصاعد وتيرة الحروب بالوكالة ويؤجج بالتالي موازين القوة.

إن اللجوء إلى استخدام الوسائل والحلفاء غير المباشرين يعطي الحرية والمناورة أيضا لمن يستخدم استراتيجية “الحروب بالوكالة”, اذ يتجاوز دور هؤلاء اللاعبين “المقاتلين المحليين” الذين يخوضون الحروب بالوكالة يعاملون كبيادق على رقعة الشطرنج الجيوسياسية هم ادوات بينما المحرك لتلك الحروب يكون تركزه على الجانبين السياسي والدبلوماسي لأجل تعظيم مكاسبه، وغالباً ما يتم توظيفها في السياسة الخارجية للدول الكبرى في بلوغ اهدافهم التوسعية واعطائها شرعية دولية وذلك عبر شعارات براقة ﻛ(حماية الاقليات، المناطق الآمنة، حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان … الخ).

المكاسب التي تحصل عليها الدول التي تستطيع توظيف هذه الحروب هي:

أولاً: توسيع قاعدة النزاعات المسلحة على مستوى العالم واستثمارها في مجال استمرار دوران شراء الأسلحة منها دون توقف وتحقيق مكاسب اقتصادية لها.

ثانياً: تأجيج النزاعات الاقليمية في مناطق مختارة يسهم في تحقيق مكاسب دولية في مناطق صراع الاقطاب الدولية الامر الذي يضعفها وابعادها عن التنافس الدولي.

ثالثاً: اختبار مدى استعداد الطرف المنافس نفسياً واقتصادياً وعسكرياً في خوض المعارك وكشف مدى قوته وامكانياته “تصفية الحسابات”.

رابعاً: نشر آيديولوجيات معينة وتوسيع نطاق نفوذها والتأثير في موازين القوى العالمية.

خامساً: نكران الأطراف غير المباشرة تدخلها مشاركتها في الصراع, وتنصلها من متورط عن أي انتهاكات ومسؤولية قانونية.

يعتبر توظيف الجماعات المتطرفة التي تعتمد على العامل الديني هو الجزء الأهم في أنتشار الحروب بالوكالة وذلك لأنه يعتمد على إثارة المشاعر الدينية الحماسية بأن “جزاءهم الجنة” فقط، عبر التحريض وبث الكراهية والعنف، ولا يحتاج لكثير من الفهم السياسي المعقّد، ولذلك يستطيع بسهولة جذب البسطاء والمتحمسين الى ساحتهم, فالعامل الديني يلغي فكرة الوطنية، ولذلك يمكن استخدام الوكلاء للعمل ضد أوطانهم وبني جلدتهم؛ وهم يعتقدون أنهم يخدمون الدين.

في كثير من الأحيان تتحول الدول الضعيفة “الهشة” أو “الفاشلة” التي تتميز بحدودها سهلة الاختراق، حيث تفتقر هذه الدول إلى القوة اللازمة لإخماد التمرد من دون دعم خارجي، الامر الذي يجعلها مسرح للحروب بالوكالة ذلك لأنها تعتبر في نظر هذه القوى الإقليمية والدولية ذات قيمة استراتيجية أو جغرافية أو اقتصادية وانها مسرح لتصفية الحسابات ويمكن أن تدار هذه الحروب بالوكالة فيها بسهولة، علما بأن هذه الأساليب لا تزال تمارس حتى اليوم.

وأيضًا تم استخدام العامل الديني في البلدان النامية، لصنع حروب بالوكالة بين الدول، مثل الحرب الأخيرة في سوريا؛ فقد استغلت تركيا العامل الديني لكسب ولاء أكبر التنظيمات الإرهابية في سوريا، مثل داعش والنصرة، بناءً على مرجعيتها الدينية للإخوان المسلمين الذين يعتبرون أردوغان داعم للمسلمين لأنه رئيس أكبر دولة “سنيّة” في نظرهم، ويستخدم الكثير من المفاهيم الدينية في خطاباته.

وتقاتل المتطرفون الذين يطلقون على أنفسهم تسمية “المجاهدون” على الأرض السورية وجعلها ساحة معركة لتصفية الحسابات على نسق الحرب الأهلية الأفغانية، مدعومين من دول عظمى ودول إقليمية، فوفرّت لهم تركيا الطرق الآمنة للدخول من الحدود التركية إلى سوريا، وأمدتهم بالأسلحة، وبالفتاوى الدينية اللازمة لإشعال سوريا، وتم تحويل الاحتجاجات السورية من سلمية الى بعد آخر أكثر عنفا وتطرفا وتحويلها إلى حرب طائفية قوامها “الوكلاء” من التنظيمات الإرهابية، الذين يخوضون حربًا طائفية مقدسة ضد بعضهم البعض؛ فحوّلوا سوريا إلى دولة فاشلة ومستنقع للإرهابيين وجمعهم من كل العالم على مختلف جنسياتهم، يقومون بتصفية حسابات الدول الكبرى والأقليمية المتصارعة داخل المدن السورية.

لذلك الكثير من الحروب بالوكالة تدار من قبل فاعلين دوليين مهيمنين على النظام الدولي لأجل تصفية حسابات واضعاف الطرف المقابل, وساحتهم الدول الضعيفة وادواتهم التطرف لذلك على الدول أن تعي هذه الحروب وأن تعد العدة لمواجهتها بكل الاساليب السياسية والاقتصادية والثقافية وان لا تعطيها أرضية لتنمو وتتفاعل وسحب الشرعية منها من خلال خلق هوية وطنية واحدة جامعة لكل أطياف المجتمع وتضعيف الهويات الفرعية وذلك حسب ما أقره قانون الدولة ودستورها.