دور الدولة في ترسيخ مفهوم الأمن الفكري لمواجهة التطرف
الدكتور إحسان محمد هادي
نظراً لتنوع التهديدات التي تواجه الدولة خلال الفترة الراهنة والتي من أبرزها خطر التطرف الذي يعد تحدياً كبيراً، الأمر الذي يضاعف من هذا التحدي التطور في آليات صناعة التطرف وترويجه, فتتعاظم الحاجة للاستجابة بوضع استراتيجيات تحقيق الأمن الثقافي والفكري لها وعلى مستويات عدة لرفع حالة الاستنفار السياسي والأمني والاقتصادي لمقاومة “موجة التطرف” التي تجتاح الدول لكونها ذات طبيعة مركبة ومتداخلة وتتطلب في مواجهتها استراتيجية “النفس الطويل”، وانطلاقاً من أهمية الأمن الفكري فقد اتخذت الدول عدداً من المبادرات المشتركة فيما بينها إضافة لجهود كل دولة على حدة.
ونظراً تنامي الأفكار المتطرفة الخارجة عن قيم الوسطية والاعتدال وجعلها عابرة للحدود فيما يشبه “الفيروس المتجول” الذي يتبنى تكتيكات غير تقليدية من أجل غزو الروح الوطنية والنسيج المجتمعي وإضعاف الهوية الجامعة والاخلال بقواعد الأمن الوطني وإصابتها بالهشاشة الأمنية تمهيداً لتشكيل حاضنات شعبية لها في مختلف المناطق، ومما يزيد الأمور خطورة تأثير تلك الجماعات المتطرفة على بعض الشباب انخراط بصفوفهم والقيام بأعمال عنف تعكس الأفكار التي تروجها الجماعات المتطرفة بغية هدم العقول قبل إلغاء الحدود, وعلى الدولة ان تركز جهودها على “المناعة الطبيعية” في مواجهة ادواتها خطابها المتطرف.
وعليه يجب التركيز على مفهوم الأمن الثقافي أو الفكري وأهميته وأبعاده والمخاطر التي تهدده على مستوى الفرد والجماعة والدولة، ووضع استراتيجيات كفيلة لمواجهة “الإرهاب الفكري” كأحد أهم وسائل تعزيز الأمن القومي الذي اتسع نطاقه وتعددت مجالاته ليشمل السياسات العامة والآليات الضامنة لتحقيق استقرار الدولة وصيانة وحدتها وضمان معتقداتها وتعزيز ثقافتها بما يرسخ قيم التواصل الاجتماعي الإيجابي ويضمن وحدة أطياف المجتمع دون النظر إلى الألوان الطائفية أو النوازع العرقية فيها.
تم التركيز على مفهوم الأمن الثقافي بميلاد ظاهرة العولمة في عقد التسعينات من القرن الماضي، فسعت إلى عمليات الاختراق إعلامي والثقافي نشر ثقافتها العابرة للحدود و والتي تدعو الى محو واذابة ثقافة الدول وجعل الثقافة الغربية جاذبة وطاغية على باقي الهويات، فأمن الثقافة هو قدرة الأمة على توفير حاجاتها من الإنتاج الثقافي والتراكم المعرفي ورفع خطر الخوف من العجز وفقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع وفكره ووجدانه وتمسكه بإرثه الثقافي، وبمعنى آخر فأن الأمن الثقافي هو ما يحمي الدولة من التبعية والارتهان للآخر والعيش على ما ينتجه الخارج.
الأمن الثقافي من المفاهيم المستجدة في الفكر السياسي العربي التي لم تنل حظوة كبيرة من النقاش والتحليل وإن كان لتصاعد الإرهاب وبروز الجماعات المتطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” والقاعدة وغيرهما دور في توجيه الأنظار نحو هذه الظاهرة، كما ساهم بروز مفهوم العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة والترويج لنظرية صراع الحضارات وهيمنة الحضارة الغربية الليبرالية في تسليط الضوء على مفهوم الأمن الثقافي والفكري لتحصين الهوية الثقافية العربية والإسلامية من آثار الغزو الثقافي الجديد، ولذا تجدر الإشارة إلى بيان مجموعة من الدراسات التي مهّدت لبناء الأدبيات العربية في شرح وتحليل الأمن الفكري كأساس علمي لمواصلة البحث في المنطلقات النظرية والتطبيقات العملية لهذا المفهوم المعاصر، ومن هنا يجب الاهتمام بثلاثة اتجاهات رئيسية هي: الأمن الفكري كمرتكز للأمن الوطني، وتحديات الأمن الفكري في ضوء الاعلام المتطور الحديث، ودور التربية من تربويين ومشرفين ومناهج التعليمية.
ثمة العديد من الإشكاليات التي تحول دون القدرة الدول على مواجهة الإرهاب الفكري والتطرف، يتعلق بعضها بإغفالها بالخطر الجديد وايضاً بعدم فاعلية الاجراءات الوقائية أو ضعف التدابير الاحترازية بمستوياتها وأدواتها المختلفة، كما بالمقابل تنامي قدرات الجماعات المتطرفة على استغلال “الثغرات” أو الاختلالات النفسية أو الفكرية والثقافية لاختراق عقول بعض الشباب والسيطرة عليهم، بما يجعل بعض حاملي الأفكار المتطرفة أقرب إلى “القنابل الموقوتة” التي تشكل تهديداً محتملاً لكافة وحدات المجتمع ابتداءً من الفرد مروراً بالأسرة والمجتمع ونهاية بالدولة ومؤسساتها، وثمة تحديات أخرى تتعلق بمؤسسات التنشئة الاجتماعية الثقافية كالمدارس والجامعات وضرورة إطلاق دورها خصوصاً في ظل تنامي فاعلية الجماعات المتطرفة وقدرتها على استثمار مختلف الأدوات الإعلامية وبناء التواصل الاجتماعي، ويمكن في هذا السياق تحديد أبرز الإشكاليات التي تواجه ترسيخ مفهوم الأمن الفكري في الدولة على النحو التالي:
- تعتبر وسائل الإعلام من أهم المؤثرات على التوجهات والسلوكيات لقدرتها على الوصول بشكل مباشر للعقول ومخاطبتها وتشكيل أفكار جديدة بعيدة عن القيم المجتمعية السائدة، وبالرغم من بعض السياسات التي تتبعها الدول في الرقابة والمتابعة لنمط الخطاب الإعلامي إلا أن حالة الانفجار الإعلامي الناتج عن تطور البرامج والوسائل التقنية قد فرض الكثير من التحديات أمام تحقيق الأمن الفكري وتحصين المجتمع من الانحراف والإرهاب الفكري وتعزيز الهوية الوطنية, وأضحت بعض وسائل الإعلام التي تتعرض للقضايا الدينية والفكرية والسياسية خارجة عن إطار السيطرة الدولة أو توجيهها في ظل قدرة هذه القنوات على البث بوسائل مختلفة وأحياناً من خارج دول الإقليم والترويج لأفكار الشحن الطائفي وتصاعد التمييز لاعتبارات دينية متطرفة وترسيخ ثقافة الغلو والإقصاء الفكري للآخر، بعد البحث والتقصي تبين أن تنظيم داعش يمتلك سبعة أذرع إعلامية يبث من خلالها العنف والإرهاب حول العالم وهي: أجناد، الفرقان، الاعتصام، الحياة، مكاتب الولايات، إذاعة البيان، مجلة وموقع دابق، إضافة إلى اكثر من90 ألف صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، كما استحدث التنظيم ديوان الاعلام التي تعد بمثابة وزارة للإعلام، إضافة إلى الكثير من القنوات التي تبث من دول أجنبية وتدعو إلى الانقسام بدلاً من الحوار والتعايش السلمي.
- المؤسسات التعليمية لا تقتصر مهام على تدريس المناهج العلمية والأكاديمية، بل على تحصين العقول في مواجهة “عمليات القرصنة الفكرية” التي تستهدف المجتمع، ذلك أن مسؤولية تحقيق الأمن الفكري مرتبط بكافة المؤسسات الاجتماعية والثقافية التي يفترض أن تؤدي أدواراً تكاملية لتحقيق ذلك في المجتمع. وتشير بعض الدراسات إلى أن الإشكاليات التي تواجه قدرة هذه المؤسسات على تحقيق الأمن الفكري المنشود اذ الامر برمته ترتبط بدور المعلمين على توجيه الطلبة حيال بعض الأفكار التي لا تتسق مع الأطروحات والقيم المجتمعية السائدة, كما يزيد من خطورة كونها هذه القضية مرتبطة بحقيقة أن المدارس والجامعات تضم كافة فئات المجتمع بفئات عمرية مختلفة بما تتيح للمعلمين التأثير على هذه العقول الامر الذي يلزم الدولة الاهتمام بخطط لتطوير للهيئة التعليمية والإشرافية والعمل على توعيته بثقافة التسامح وترسخ توحيد المجتمع وابعاده عن الفكر المتطرف. وتقاس للدولة من خلالها مخرجات التعليم ونتائج التغذية الفكرية السليمة فيها، ورصد مدى نجاح قيم المبادئ الفكرية التي تم غرسها في نفوس المتعلمين وذلك من خلال النشرات وبحوث الطلاب.
وعليه يعد الأمن الفكري من أولويات الدولة في مواجهة التطرف للحفاظ على امن الدولة واستقرارها فعلى الدولة ان ترسخ الثقافة الوطنية عبر الاهتمام بالرمزيات والاهتمام بخطاب اعلامي جاذب يطغى على وسائل الاعلام الموجة التي تحاول نشر الافكار المنحرفة والدخيلة, الامر الثاني المؤسسة التعليمية من المؤسسات التي بدورها بالدرجة الأولى في تنشئة جيل محصن من الأفكار المتطرفة وبعدها التطور العلمي.