ataba_head

البعث وتفتيت النسيج الاجتماعي …. ذاكرة الموت والدمار

البعث وتفتيت النسيج الاجتماعي…. ذاكرة الموت والدمار

أ.د. حسين الزيادي

جامعة ذي قار

 

 شهدت مرحلة البعث في العراق أحداثاً عميقة في مجمل تفاصيل الحياة وتركت جراحاً غائرة في جسد الإنسان العراقي ووجدانه، فقد كانت تلك الحقبة المظلمة عبارة عن سلسلة من الرعب قارنها العديد من خبراء العصر بتجربة ستالين، فهي  قصة سادية تمتلئ صفحاتها بالتعذيب، والإعدام، والتهجير، والإرهاب، والإبادة ، والاعتداء، وانعكست آثار الحروب وسياسة القمع والاضطهاد والفوضى والفقر والحرمان، على نفسية الأفراد بأشكال متعددة وبنسب مختلفة، مسببة دمار نفسي واضطرابات سلوكية وخوف من المستقبل وقلق وتوتر وانفعال، وتختلف حدة هذه الآثار بحسب قوة البناء النفسي للفرد وحصانته الفكرية، فهناك من يتجاوز المحنة وهناك من لا تسعفه قدرته على ذلك، فقد كان ليل البؤس طويلاً حتى دب اليأسُ في النفوس، وبرزت نتيجة سياسات البعث ظاهرة انحلال وتفكك الروابط الاجتماعية والأسرية، حتى وصل الأمر إلى قتل الأصول، فحينما تتلوث النفس الإنسانية، فذلك يعني تجردها من نوازعها الإنسانية وخصوصية قيمها، وحين ذاك فإن نفوساً كهذه سوف لا تكتفي بتلويث بيئتها فحسب بل ستلوث كل معاني الحياة الأخرى، لذلك فأن تدنيس النفوس وتلويثها يكون أسوأ من قتلها، لأن قتلها يكون آنياً وبحدود الجسد، في حين أن تلويثها سيكون كالوباء المعدي.

   حاول نظام البعث أن يجعل كل عراقي جاسوساً على الكل، بحيث صار كل عراقي يشك حتى بأقرب الناس إليه من ذويه وأصدقائه، وللأسف الشديد نجح البعث مع قسم من الناس في إسقاطهم بمستنقع الرذيلة، إذ عمل على تدمير العقل والأخلاق، وتفشي الجريمة، وتفتيت النسيج الاجتماعي، فقد شاهد العالم قيام رئيس جمهورية الخوف وهو يمنح أعلى وسام في الدولة لرجل قتل ابنه، وادعى الأب أن قتله لابنه كان لهروبه من الجيش خلال حربه المشؤومة مع إيران، والحقيقة لم تكن كذلك، إذ كان سبب القتل هو جريمة أخلاقية، أراد الأب بها غسل العار، واختلق تهمة فرار الابن من الجيش للستر والتخلص من العقاب، فانتهز النظام الفرصة وحوَّل الجريمة إلى عمل وطني شريف ودعاية لحزبه، وبهذه الحيلة لم يتخلص الأب القاتل من السجن فحسب، بل ومُنِح وسام الرافدين أمام وسائل الإعلام ليكون مثالاً يقتدي به ، وهكذا تم تمجيد الجريمة وفق مفهوم البعث للأخلاق والجريمة.

   وقد كان لعسكرة المجتمع أثر كبير في بروز العديد من الأمراض النفسية، وكان الأطفال الضحية الاولى لأنهم الفئة الاكثر تضرراً، وقد سعى نظام البعث الى تهديم النسيج القيمي والاجتماعي للمجتمع من خلال ممارساته الهادفة إلى تثبيت أركان حكمه وضرب أي حركة معارضة ، وتمكن هذا النظام من إغراق بلاده في حمام دم على طريقة القرون الوسطى، ولم يكتف بتدمير بلاده وحسب، بل قام بتصدير إرهابه إلى دول الجوار

   إن حكم البعث الممتد لأكثر من ثلاثين عاماً على كثرة مغامراته واستبداده قد ولدّ أمراض اجتماعية ونفسية تغلغلت في المجتمع العراقي، فالجانب السلبي موجود في النفس البشرية وهو أمر لا يختلف فيه اثنان، لكن هذا السلوك ينمو حيثما توفرت البيئة الملائمة لذلك، وقد عزز البعث سلوكيات شاذة لا تمت للأخلاق والفضيلة بصلة، وحاول بكل قوة ان يبثها في المجتمع ويغذيها ويثبت أوتادها ويعززها بإغراءات ومنافع مادية ومعنوية، فالنفاق والتجسس والوشاية والخديعة والتحريض والدسيسة والمكيدة وغيرها من ظواهر التلوث الاجتماعي والانحراف القيمي زرعها البعث ولاقت استحسانه ونمت الى حد ما في ظل سياساته البوليسية، لأنه اراد من خلالها تثبيت سلطانه غير مكترث بما تخلفه تلك الظواهر من آثار ونتائج كارثية على بنية المجتمع، فانتشرت ظاهرة المخبرين في المدارس والصفوف والشوارع والدوائر والجوامع والأماكن العامة، بل حتى داخل بعض الأسر، ولم يعد الفرد يأمن من طرح فكرة او رأي، ومن الظواهر النفسية التي برزت هو الشعور بالعبودية والتبعية، فالشخص الذي لا يؤمن بالسياسات العبثية لسلطة البعث تراه منقاداً للاعتراف بها ظاهراً بسبب أدلجة المجتمع وعدم قدرته على الافصاح عن رفضه، ولاشك ان للحروب المتتابعة فضلاً عن اثارها المادية المنظورة المتمثلة بالفقر واليتم والترمل والطلاق والجريمة والانحراف وغيرها كثير، فإن هناك نتائج وأثار وخيمة غير محسوسة لأنها تتعلق بنفسية بعض الافراد التي لا تظهر نتائجها بشكل آني، فهناك الفلسفة العدوانية والميل إلى العنف والانتقام، فترى بعضهم لا يدع مجالاً للفتك بأبناء جلدته، أذا سنحت له الفرصة، وقد استطاع البعث أن يبوأ المناصب العليا لأناس يعرف مسبقا  بوجود الاستعداد النفسي لديهم للإجرام والقمع والانتقام.