ataba_head

من أسرار انتفاضة صفر 1397 هـ – 8 شباط 1977

من أسرار انتفاضة صفر 1397 هـ – 8 شباط 1977
الباحث : عبد الهادي معتوق الحاتم

 

قبل اندلاع انتفاضة صفر بيوم واحد فقط وبالتحديد يوم 14 صفر من عام 1397 هـ ، أفرغ النظام البعثي ما في جعبته من وقاحة وتحد سافر لمشاعر المسلمين من أبناء العراق، وحينها أعلن محافظ النجف وكان في  ذلك الوقت” جاسم الركابي” أن قيادة الحزب والثورة أصدرت قراراً منعت بموجبه الذهاب إلى كربلاء وخروج المواكب والمسيرات الحسينية بمناسبة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) كالعادة الجارية في كل عام، وهدد بضرب كل من يعارض هذا القرار بعنف وقسوة وذلك في الاجتماع الذي عقده النظام في قاعة الاجتماعات في النجف الأشرف والذي حضره عدد من أصحاب المواكب والهيئات الحسينية .

تهديد المحافظ لم يترك للحاضرين أي أثر لصالحه، بل العكس من ذلك كان عاملاً في تأجيج نار الثورة والعصيان في نفوسهم، فالنظام لم يكن يتوقع حدوث شيء في اليوم الثاني “15 صفر” على الرغم من كل ما جرى في قاعة الاجتماعات وعلى الرغم من الردود التي تلقاها من الحاضرين لأنه كان يتصور أنه استطاع أن يحكم سيطرته على أبناء الشعب العراقي المسلم  وإذا كان هناك شيء ما سيحدث فإنه لا يتعدى فقاعة سرعان ما تنفجر وتتلاشى حسب تصور أزلام السلطة، غير أن ساعة الصفر “الحادية عشر من صباح يوم 15 صفر سفّهت أحلام النظام وبددت كل توقعاته وصادرت جميع حساباته عندما تفاجأ بانفجار الموقف وامتلاء شوارع النجف وأسواقها وأزقتها بالجماهير التي هبت لتجديد البيعة مع الإمام الحسين عليه السلام وتعلن (مرة أخرى) رفضها للنظام البعثي حاملة الأرواح على الأكف هاتفة “لو قطعوا أرجلنا واليدين – نأتيك زحفاً سيدي يا حسين” و “أبد والله ما ننسى حسيناه”.
وعلى الرغم من عدم توقع النظام لحقيقة ما سيحدث فقد أعلن حالة الطوارئ القصوى في جميع دوائره ومؤسساته القمعية واستدعى إلى مدينة النجف أعدادا هائلة من أعوانه ومرتزقته من رجال الأمن والمخابرات والحزبيين (بعثيين وشيوعيين) لأن الرفاق كانوا متفاهمين تحت خيمة تسمى بـ “الجبهة الوطنية” والشرطة لمواجهة الموقف ولو على أقل الاحتمالات، ففوجئت قوى النظام بالجماهير تتدفق من جهات متعددة حسب الخطة التي رسمتها مسبقاً، فأخذت هذه القوة تتخبط في كيفية مواجهة الموقف، فالسيطرة على الشارع أصبح متعسرا والجماهير أخذت تجوب شوارع المدينة وأسواقها وأزقتها بكل شجاعة متحدية كل شيء يمت للنظام البعثي بصلة فوقعت داخل المدينة بعض المصادمات بين عصابات الإرهاب البعثية والجماهير الثائرة  ثم اتجهت الجماهير صوب كربلاء الحسين عليه السلام .

وفي أثناء الطريق مرت على مبنى محافظة النجف فصادفت مجموعة من أعوان النظام كانوا لائذين بالقرب من المبنى وبضمنهم محافظ النجف جاسم الركابي، فأخذت تردد هذا الشعار باللهجة الدارجة : “يجاسم گله للبكر تره حسين منعوفه” أي : يا جاسم قل للبكر أننا لن نترك قضية الحسين…
واستمرت الجماهير الحسينية في تقدمها إلى كربلاء قاطعة المسافة (78كم) بأربعة أيام حطت رحلها في ثلاث محطات للاستراحة في وسط الصحراء هي “خان الربع، خان النص ، خان النخيلة” وكان كلما يمضي يوم على الانتفاضة يزداد الوضع توتراً وحدّة .
حاول النظام في اليومين الأوليين (15 – 16) صفر استدراج الجماهير وجرها إلى معارك جانبية لعله يتمكن من ايقاع الخلافات بينها الأمر الذي سيؤدي إلى تمزيق وحدتها وإضعاف شوكتها ليسهل عليه احتواءها والإجهاز عليها، غير أنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً ، فلجأ إلى ضربها بالحديد والنار كما حدث ذلك في خان النص “17 صفر” مما سبب في استشهاد البطل السيد عبد الأمير الميالي – 14 سنة – وجرح العديد فضلاً عن استشهاد امرأة، غير أن هذا الاعتداء لم يحقق هدف النظام في القضاء على المسيرة، فواصل أنصار الحسين (عليه السلام) زحفهم إلى كربلاء وهم يرددون شعارات أكثر ثورية وحماساً منها “قدّم النجف أربع فدائية – گلو للبكر كل أصبع بميه” “وين ايروح المطلوب النه” … أي أنَّ مدينة النجف قدمت في طريق الشهادة أربعة فدائيين ـ وقولوا للبكر أن كل أصبع من أصابع الشهداء تعدّ بمائة ..

مكثت الجماهير تلك الليلة في خان النخيلة لتكمل شوطها الأخير في اليوم الثاني (18 صفر) إلى كربلاء المقدسة فاسرع النظام إلى أخذ التدابير اللازمة للحيلولة دون وصولها إلى كربلاء ، وأرسل وفوداً عنه للتفاوض مع الثوار لعلها تتمكن من تهدئة الموقف وتركيع الثوار لمطالب النظام الذي تظاهر برفع الحظر عن المواكب والمسيرات الحسينية ليمتص نقمة الجماهير وغضبها  ففي الوقت الذي كانت أفواج النظام تتقاطر على الثوار في خان النخيلة لمشاغلتهم والهائهم، وكان هناك اجتماع مهم عقد في قاعة الإدارة المحلية في كربلاء حضره “عزت الدوري” وزير داخلية النظام آنذاك وعدد من أعضاء ما يسمى بالقيادة القطرية لحزب البعث ومسؤولي تنظيم الفرات الأوسط استمر إلى وقت متأخر من الليل، اجتمعوا لمتابعة الأحداث ومراقبتها عن كثب والتشاور في وضع تنفيذ مخططهم العدواني في قمع المسيرة، فالمخطط نفذ في اليوم التالي (18 صفر) حينما أرسل النظام طائرتي “ميغ” وأخرى هليكوبتر ورتلاً مدرعاً من الدبابات والمدرعات والآليات الأخرى فضلاً إلى أعداد كبيرة من عناصر الجيش والشرطة والأمن والمخابرات … وقد أشرف على تنفيذ هذا المخطط الإجرامي صدام حسين بنفسه فضلاً عن أعضاء ما يسمى بالقيادة القطرية ووزير داخلية النظام  والجدير بالذكر أن صدام كان حينئذ يشغل منصب نائب رئيس ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، ولكن على الرغم من جميع هذه الحواجز التي وضعتها السلطة للحيلولة دون وصول هذه المسيرة إلى كربلاء، إلا أنها دخلتها بكل شجاعة وبطولة وهي تردد “ماكو مؤامرة تصير على الحسين بن علي” و “يصدام شيل ايدك جيش وشعب ميريدك”.

وفي كربلاء وبعد أن فشل النظام في قمع الانتفاضة والقضاء عليها، افتعل لعبة تفجير صحن الإمام الحسين عليه السلام وذلك يوم (18 صفر)، والمضحك في هذه اللعبة أن النظام رفع لافتة في مدينة الديوانية قبل الإعلان عنها بيوم – أي في 17 صفر – يستنكر فيها عملية التفجير المفتعلة ، وبعد انتهاء المسيرة من أداء مراسيمها قام جلاوزة النظام باعتقال الآلاف من الناس، عرضوهم إلى تعذيب وحشي، بعد ذلك أصدر النظام حكمه بالإعدام على سبعة مجاهدين وبالسجن المؤبد على خمسة عشر آخرين، والملفت للنظر أن الشهيد محمد سعيد البلاغي (17 عاما) كان ضمن مجموعة المؤبد إلا أن جلاوزة النظام نقلوه إلى مجموعة الإعدام بعد أن وجدوا عدد المقرر إعدامهم ينقص واحد، ونقلوا أحد المعتقلين من مجموعة الإفراج إلى مجموعة المؤبد !!