من أرشيف الذاكرة الشعبية
ذكريات زيارة الأربعين في زمن حكم حزب البعث في العراق الحلقة الثالثة
بقلم: د. عباس القريشي
إنَّ الله (عزَّ وجل) خلق الإنسانَ وميّزه بالعقل ليختار الدين والمعتقد مما يثبت عنده بالبرهان اليقيني الحجة والدليل؛ فيبدأ بالتعبد بمبادئ ذلك الدين وقيمه ويطبق مفاهيمه ويمتثل لأوامره ويجتنب نواهيه، وهذا ما عليه الغالبية العظمى من عقلاء الإنسانية، لذا كان ولا زال الكفاح من أجل الحرية الدينية قائما ومنذ قرون؛ وقد أدى إلى كثير من الصراعات المفجعة والمؤلمة بسبب اعتراض المتطرّفين والمتزمتين والخائفين على مصالحهم فهم يظنون أن ممارسة الشعائر والطقوس الدينية تهديد لزوال ملكهم وسلطانهم وهو ما كان عليه حزب البعث الفاشي في العراق، فكان أزلام النظام البعثي البائد يستنفرون قواتهم المسلحة وأجهزتهم القمعية بل كل ما لديهم من قوة في شهري المحرم وصفر لمنع الشيعة من ممارسة مراسيم استذكار شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن بين الشعائر التي كانت تفقدهم توازنهم هي زيارة الأربعين (يوم العشرين من شهر صفر) لدرجة اضطر المقبور صدام حسين أن يظهر على التلفاز مرارا وتكرارا وينتقد الزائرين مشيا ويُصدر منع الزيارة مشياً محاولا تبرير منعه بأسباب لا واقع لها كمضايقة السيارات ! أو أنّها ظاهرة لا داعي لها أو أنَّ ذلك يتيح فرصة لأعداء الحزب والثورة ! أو أنّها طقوس خرافية ولما وجد جميع ذلك غير مجدي ظهر المقبور صدام حسين وهو في حالة هيستيريا وأخذ يتهم من يأتي ماشيا من البصرة إلى كربلاء أما أن يكون مجنوناً أو جاسوسا! .
فسجنوا الآف الشيعة رجالا ونساءً، وأعدموا مئات الشباب بسبب زيارتهم على الأقدام للإمام الحسين (عليه السلام)، بحث بسيط لدى مؤسستي السجناء والشهداء وسوف تُصدم بالأعداد التي تعرضت لذلك بسبب الزيارة .
والعجيب ارتفاع أصوات عدد من المغرر بهم أو من البعثيين وأبنائهم المطبلين والساعين لتلميع صورة المقبور صدام حسين ونظامه معللين بأنّ المنع كان من المشي فقط لدواع أمنية أو لتسببه بمضايقات لشركاء الشيعة في الوطن ! متغافلين عن تصريحات قائدهم بطل الحفر القومية الذي ذكرناه، ويبطل ما يزعموه هو تفاعل جميع أبناء العراق بل كثير من غير أبناء العراق مع هذا المارثون المليوني الذي كُتبت عنه الرسائل والأطاريح الجامعية وتناقلته وسائل الإعلام العالمية.
ويا ليت الزمان يتقهقر ليرى أبناؤنا الذين لم يعاصروا تلك الفترات الظالمة التي كانت التحدي الأكبر لعشاق الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الطغاة وأزلامهم حينما كنا نسير ليلاً سالكين الطُرق الوعرة التي تُنيرها أغلفة علب المعجون أو الدهن الممتلئة بالنفط الأسود كي يبقى مشتعلا أطول فترة أو تلك البساتين المكتظة بالنخيل والأشجار والمعلق على بعضها كلمات ( إلى الامام كربلاء ، خذ بعد ألف متر انحرف يمينا إلى كربلاء، أو إشارة سهم ….إلخ) ليسترشد بها الزائرون مشياً.
نعم ، لم يكن المسير إلى كربلاء إبان حكم حزب البعث سهلاً بل كان جلاوزة البعث يلهثون خلف الزائرين ليتقربوا إلى سلطانهم بل أحدهم كان اسمه شهيد وهو ينتسب إلى رسول الله فيقال له يا سيد شهيد رفقا بزوار جدك الحسين فكان جوابه بلسان الغضب لا تقول سيد شهيد بل قولوا يزيد! ولا أتمكن من نسيان مطاردات البعثيين للزوار بسياراتهم الزرقاء(اللاندكروز ) وكيف كانوا يلقون القبض على النساء وهن يتوسلنهم ليطلقوا سراحهن والبعثيون يشتمونهن ويصفوهن بالأوصاف التي يندى لها الجبين، ولا أنسى رميهم بالرصاص الحي خلف الزوار الهاربين في الأراضي الوعرة، وهذه المواكب التي نراها اليوم وهذه الخدمة التي يتنافس عليها المحبون لم تكن موجودة بل كان من يقدمها يعاقب بأشد العقوبات منها يأمره البعثيون بوضع يده في القدر وهو يغلي ومنها يؤخذ إلى السجن ويحاكم بل وصلت العقوبة إلى الإعدام وغير ذلك من التفاصيل التي لا تغادر ذاكرتي وقد عايشتها بنفسي وبإمكان القاريء الكريم أن يسأل أي شخص كان من المعاصرين لتلك الحقبة المظلمة التي مرَّ بها أبناء العراق .