ataba_head

ذاكرة السمكة

ذاكرة السمكة
م.م محمد الخزاعي

العتبة العلوية المقدسة

 

 

قرأتُ قبل فترة أنَّ فتاةً تُدعى رايلي هورنر من ولاية إلينوي في الولايات المتحدة الأمريكية تعرّضت لإصابةٍ في رأساها من زميلها عن طريق الخطأ وأنتجَ ذلك عن فقدان ذاكرتِها كل ساعتين، هذه الحالة حيّرت الأطباءَ حيث أكدوا أنَّها حالةٌ صحية فريدة من نوعها إذ أنَّ ذاكرتَها تعيد ضبط نفسها كل ساعتين تقريبًا، لدرجة أنها لا تتذكر الناسَ الذين قابلتهم في اليوم نفسه.

هذه الحادثةُ أو الحالة الصحية النادرة يبدو أنَّ بعض العراقيين مصابون بها باستمرار, ولا سيما أننا إن فتشنا في ذاكرتهم نجدُ أنها تشبه إلى حدّ بعيد ذاكرة السمكة.
فيكون ما يحصل أشبه بعملية انتزاع لذاكرة وصناعة لذاكرة جديدة ، أي أنَّ هناك عمليةَ تفكيك وتبديل لقطع غيار الهوية والذاكرة للفرد العراقي، ويتمُّ إعادة تركيبها وتشكيلها، كما يفعل النحات مع منحوتاته حين يزينها ويحفر فيها ويزخرفها ويتلاعب بها بين أصابعه كلما شاء ذلك ,ويستطيع أن يهدمها ومن ثمَّ يعيدُ ترميمها بالشكل الذي يُريد.
, ولعوامل كثيرة في أغلبها سياسية وبعض منها طائفية أصبحت الذاكرة العراقية غير قادرة على التشكل من تلقاء نفسها، أي لم تعد قادرة على أن تروى لنا بنفسِها عن نفسها من دون أن تستعين بالآخر الخارج عنها.
وهذه الاستعانة مهّدت لكثيرٍ من التزييف والتحريف في تدوين التأريخ المعاصر الذي عاشه العراقيون , فأصبح من كان ينحر الأبرياء لنكتةٍ أو كلمةٍ أو ربما حرف يوصف زمنه بالزمن الجميل! في حين نجد أنَّ مدوني هذا التأريخ يكيلون التهم والتزييف لك من وقف بوجه ظلم الدكتاتوريات المتعاقبة.

حقيقة الذاكرة العراقية تعاني من تشظي مخيف جداً , ولا سيما مع المستوى المعروف للذائقة العامة في تلقي المعلومات , فأصبح بإمكان أي جهةٍ منظمةٍ أن تغذيَ الأجيالَ بمعلومات زائفة وهذا ما يمثل من الخطر بمكان.
لذلك ضرورة أن يتنبّه من يمسكُ زمامَ هذا البلد إلى خطورة تمييع ذاكرة العراقيين , لأنَّ التأريخ هو من يساهم في منع تكرار المأساة التي عاشها العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة, فضرورة أن تُخطَّ لهم رموزاً ومتاحف ومؤسسات توثيقية تجسّد للفرد العراقي وعياً وذاكرةً تستمر بالتشكّلِ لتصبح في ما بعد ذاكرة تاريخية له، إذ أنَّه يصعب الحفاظ على التراث حينما تُمحى ذكرياته وأسماؤه ورموزه، وهي مع الزمن ستختفي وتتلاشى, وهذا ما يريدُ أعداءُ هذا البلد الذين تكالبوا عليه يميناً وشمالا.