ataba_head

من أرشيف الذاكرة الشعبية حكايات أمي عن عاشوراء في زمن حكم حزب البعث في العراق / الحلقة الأولى

من أرشيف الذاكرة الشعبية

حكايات أمي عن عاشوراء في زمن حكم حزب البعث في العراق / الحلقة الأولى

د. عباس القريشي

 

للذاكرة الشّعبية دورها الكبير في بيان حقائق الأحداث للأجيال التي كانت صغيرة أو جاءت متأخرة عن بعض الحُقب الزمنية , ومن بين تلك الأحداث مصادرة الحريات الدينية في زمن سلطة حزب البعث ,فكثير منا يمتلكُ رصيداً كبيراً من القصص والروايات لتلك الأحداث , والمؤسف غالباً ما تموت مع أصحابها ,والواجب الوطني يحتّمُ عليهم أن يدونوها أو يحكوها لأبنائهم وأحفادهم ليكونوا على بينةٍ من تأريخ آبائهم وأجدادهم وما واجهوه من انتهاكات في ممارسة طقوسهم الدينية.

وفي هذا المقال سأكتبُ شيئاً من حكايات أُمي عن عاشوراء ,إذ لا زلت أتذكر بعض حكايات والدتي الكريمة التي كانت تقصها لنا ونحن أطفال في أيام محرم الحرام عن أيام عاشوراء قبل سطوة حزب البعث؛ كيف يُحي الناس ذكرى فاجعة الطف بأساليب متنوعة فتقول: كان الناس في أيام محرم بين من يقيم مجالسَ العزاء وكان المرحوم السيد قاسم شبر (قدس سرّه) يلطم على صدره مع جموع الناس ويجهش بالبكاء مع قارئ العزاء، فسألها أخي الصغير وأين السيد قاسم الآن ؟ قالت : قتله البعثيون شرّ قتلة ,ولم يراعوا شيبته ولا نسبه لرسول الله (صلوات الله عليه)! مع مجموعة من خيرة الرّجال المؤمنين، فقلت لها لماذا قتلوه ؟!، قالت لأنّه عالم دين , ورفض أفكار حزب البعث !، ثم رجعت تحكي لنا عن مواكب العزاء التي تسير ليلاً في شوارع وأزقة المدينة وكيف كانت الناسُ ترافقها , وهي في ذلك تغرس فينا حُبَّ أهل البيت “عليهم السلام” ومدى بشاعة إجرام البعثيين الذين منعونا من أبسط حقوقنا، ونزداد شوقا فيبادر أحدنا  وماذا يحدث في ليلة ويوم عاشوراء ؟ تسكت برهة فتذرف دموعها مقترنة بزفرات ملتهبة يملؤها الحُزن والألم ، فتقول:  لعنة الله على الظالمين كنا نحيّ ليلة العاشر من المحرم الحرام بذكر مصائب السيدة زينب “عليها السلام” وما جرى في كربلاء من أحداث في تلك الليلة وأيضاً نعدُّ الطعام (الهريسة) لتوزيعها صباح يوم عاشوراء على الفقراء أو على الناس في التشابيه.

      وما هي التشابيه يا أُمي؟ فتقول هناك مجموعة من المؤمنين يقومون بتجسيد واقعة الطّف على أرض الملعب فمنهم من يأخذ دور الإمام الحسين “عليه السلام” ومنهم من يأخذ دور العباس  “عليه السلام” ومنهم من يأخذ دور علي الأكبر ومنهم من يأخذ دور السيدة زينب “عليها السلام” والأطفال وهناك من يأخذ دور الشمر لعنه الله ودور عمر بن سعد وحرملة وغيرهم , وتبدأ تتجسد واقعة الطف أمامنا والناس بين باكٍ وبين صارخ لدرجة بعض النساء تدخل إلى الميدان وهي تحمل حجرا لتدافع عن أهل البيت  “عليهم السلام ” وبعد انتهاء المراسيم نقوم بتوزيع الطعام على الحاضرين، وهناك  من يعقد مجالس العزاء لقراءة مقتل الإمام الحسين “عليه السلام”   ويقوم بالقراءة عادةً أحدُ العلماء ويستمر في قراءته أكثر من ثلاث ساعات والناس تبكي وتصرخ على مصائب أهل البيت “عليهم السلام” .

ولكن لما تسلّط البعثيون على الحكم في العراق في بدايتهم دعموا تلك الشعائر الحسينية! ليكسبوا تأييد الشيعة في تنافسهم مع الشيوعية، ولكن مع مرور الوقت بدأ البعثيون بمنع تلك المجالس والشعائر الدينية , ويضيقون على إقامتها في كثير من المحافظات العراقية , لدرجة أنهم أعدموا الكثير ممن يقيمون ويحضرون تلك المجالس فكنا نتعجبُ , لماذا يفعلون ذلك ؟! فتسكت خوفاً من أن نتكلمَ خارج المنزل.

نعم أيُّها القارئ الكريم اعلم أنَّ الشعائرَ الحسينية مرّت بمنعطفاتٍ خطيرةٍ , وكثيرة نتيجة التحديات التي واجهتها إبَّان حكم حزب البعث في العراق كنتيجة للسياسات التي مارستها السلطة البعثية الظالمة في شتى محافظات الوسط والجنوب على مدى الخمس والثلاثين سنة من حكم الدكتاتور صدام حسين وحزب البعث النازي .