النهج الحسيني في التسامح ونبذ التطرف
د. حسام صبار هادي
جامعة ذي قار / كلية الآداب
يعدُّ التسامح قيمة أخلاقية عظيمة وفضيلة إنسانية مثلى, حثّ عليها الإسلامُ ودعا إلى التحلي بها, وأمر أتباعه بالتخلّق بالسماحة والعفو والصفح والرّحمة والرأفة والرفق في التعامل والسلوك, وأوصى بالإحسان والبر إلى جميع فئات ومكونات المجتمع, لكي يعيشَ الجميعُ في أمن وأمان وسلام واستقرار وتعاون ومحبة وانسجام, وما أحوجنا نحن اليوم إلى لغة التسامح والتواضع الإنساني أمام ما نراه ونشهده في واقع حياتنا اليومية, فقد تناسينا رموزنا وفلسفتهم في التسامح وتمسكنا بكل ما هو سطحي خالٍ من كل مضمون، تقوده الأنانية والحقد والتكفير والتخوين ونبذ الآخر حتى فقدنا بعدنا الإنساني الذي كنا نباهي فيه الأمم.
إنَّ القيم التي أنتجها الفكر الحسيني وسعى إلى نشرها وتثبيتها، يمكنها أن تساعدَ الشعوب على فهم أسباب التطرف ومعالجتها، فعندما ندرس منتجات التطرف والتعصب كالمنظمات الإرهابية وما تفعله على صعيد نشر الأذى بأشكاله في عموم العالم، كما يفعل داعش اليوم، فإننا حتما سنلاحظ بروز قيم مضادة لقيم عاشوراء التي غايتها سلامة الإنسان وسعادته، لذا علينا التمسك بما تطرحه قيم واقعة الطف وأهدافها، من فرص لتطوير الحياة، وأن لا نسمح بحالة خلط الأوراق التي تحاول أن تعطي وجهًا آخر لهذه الواقعة من خلال نشر الإشاعات المضادة لها، ومحاولة تسطيحها وطمسها فكرياً ومحو القيم الإنسانية العظيمة التي تدعو إليها وتحث على تطبيقها في مختلف جوانب الحياة.
لقد اعتمد الإمامُ الحسين “عليه السلام” مبدأ التسامح في جميع مراحل حياته، وقبل ثورة عاشوراء، وربما من أشهر الحوادث ما عُرف بتعامله مع جيش الحر بن يزيد الرياحي، عندما جاء مع ألف فارس وجعجع بركب الإمام الحسين “عليه السلام” وقطع عليه الطريق إلى الكوفة, وعلى الرغم من هذا الموقف العدائي للحر الرياحي، فان تسامح الإمام الحسين “عليه السلام” قاده إلى أن يروي عطش ذلك الجيش القادم لاعتقاله، وأمر بإسقائهم الماء عندما شاهدهم في تعب وعطش شديدين, ويزيد على تسامحه تسامحاً أن رشف خيلهم بيده الشريفة, وأزال عن الفرسان ما يثقلهم في تلك الرمضاء اللاهبة. وفي لحظة صحوة الضمير, عندما خير الفارس الكوفي نفسه بين الجنة والنار، ونزل في ساحة الحسين (عليه السلام) معتذراً نادماً يطلب الصفح والعفو والتوبة، ما كان من الإمام الحسين “عليه السلام” إلا أن يقبل توبته ويبارك له الحرية في الدنيا والآخرة, وكان بإمكانه أن يعتذر عن قبول توبة الحر فيلتحق هو الآخر بعارها وشنارها ، لكنه جاء كجده رحمة للعالمين .
ومن شذرات السيرة العطرة للإمام الحسين “عليه السلام” كان يبكي القوم في كربلاء لأنهم سيدخلون النار بسبب قتلهم له، فهم يريدون موته وهو يريد حياتهم، ولكن لا حياة لمن تنادي، فكان الإمام “عليه السلام” اليد التي تمتد إلى العطف، واليد الحانية على الجميع، رغم مواجهته بالسلاح، وقتل أولاده وأهل بيته وأصحابه.
ومواقف الإمام الحسين “عليه السلام” في ثورته الرسالية الخالدة زاخرة بهذا النوع من الخُلق الرفيع الذي لم يفرق بين الحر والعبد, والسيد والمولى, والأسود والأبيض, فنجده تارة يضع خده الشريف على خد العبد الزنجي جون الذي سقط في ساحة الميدان يتلفظ أنفاسه الأخيرة, وتارة أخرى يفعل الصنيع نفسه مع ولده علي الأكبر اشبه الناس خلقاً وخلقاً برسول الله (صلوات الله عليه), فأبت أخلاقه “عليه السلام” التفرقة بين الناس على أساس غير أساس التقوى والقرب من الله، وهذا هو المنهج الذي ورثه أهل البيت عليهم السلام, وبهذا النهج كانت ثورة كربلاء ثورة أممية لا تقتصر على دين ومذهب وقومية, لذا اشترك بها جمع من النصارى والمسلمين من غير الشيعة ومعهم جمع من الفرس والاتراك والروم.
وفي كثير من المواقع كان الإمام الحسين “عليه السلام” يمنع قومه من البدء بالقتال، مادام هناك مجال للكلمة، ومعرفة الرأي، فلا مجال في ثقافة الإمام الحسين “عليه السلام” بأن يستعمل سلاح الحرب والقتال بوجود فسحة لمعرفة الرأي ووجهات النظر، ويكاد يتفق معظم الرواة على أن الإمام الحسين عليه السلام لم يحمل السلاح في جميع مراحل المعركة, إلا بعد أن بقي وحيداً ولم يستجب له أنصار الدكتاتورية حينما دعاهم إلى التخلي عن منهجهم , فحينها قال لأخته العقيلة زينب عليه السلام “ناوليني لامة حربي” وفي هذه المواقف يتجلى منتهى تمسك الإمام الحسين” عليه السلام” بالتسامح, وليس ذلك بغريب ولا محط عجب أو تعجب, فقد استقى الأخلاق وقيمها من ينابيعها الصافية, من جده الرسول الأكرم (صلوات الله عليه) وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، وكل الصفات الحسنة والمُثل العُليا تُطأطِئ رأسها أمام حضرتهم فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل الصور في التسامح تجاه من أساء إليهم. وعلى منوال (حسين مني وأنا من حسين) يأتي النسيج متشابها لتشابه الخيوط وتماثل اللحمة، بل هي اللحمة بعينها، فحيث كان النبي محمد رسولاً من الله إلى الأمة التي تنازعتها الأهواء, نهض سليل النبوة ومعصم الرسالة في زمن عصفت بالأمة رياح التضليل وصار الدين لعق على ألسنة المسلمين يدرونه ما درت معايشهم، فكانت غضبة الدين التي جاءت لإصلاح إعوجاج الأمة وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.