ataba_head

العنف وتهجير الأقليات في العراق

العنف وتهجير الأقليات في العراق
د. حسام صبار هادي
جامعة ذي قار / كلية الآداب

 

إن المتتبع لمسيرة التحركات السكانية الداخلية في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين يلاحظ أن معظمها ارتبطت بمفهوم التهجير القسري, ابتداءً من ترحيل اليهود إلى عمليات الأنفال وتهجير الكرد الفيلية, ومروراً بسياسة تعريب كركوك في الثمانينيات, فضلاً عن عمليات النزوح الواسعة التي رافقت الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت وما اعقبتها من عمليات تجفيف للأهوار وتهجير سكان الجنوب, ثم جاءت أحداث عام 2003 التي ألقت بظلالها على عموم العراق وتسببت بنزوح وهجرة ملايين السكان, ومن بين أشد أنوع الأزمات أثراً على المجتمع العراقي هي أزمة النازحين بعد عام 2014 وتداعياتها الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي ضربت كافة المحافظات شمال ووسط وجنوب العراق ولازالت آثارها مستمرة حتى يومنا هذا, رغم مرور أكثر من ثمانية أعوام عليها.
أشارت وزارة الهجرة والمهجرين في تقيمها للواقع الديموغرافي في العراق إلى أن عدد الأفراد المهاجرين خارج البلاد والمسجلين لدى الوزارة خلال المدة 2003 ولغاية أواخر عام 2020 بلغ(2252218) مهاجراً, بواقع(453806) عائلة, في حين لم يتجاوز عدد الوافدين(العائدين من المهجر) للمدة نفسها (750439) مهاجراً, بنحو (139204) عائلة, بمعنى أن إجمالي صافي الهجرة الخارجية بلغ (-1501779) مهاجراً, وحوالي(-314602) عائلة, أي ما يقارب (69.4%) من العوائل المهاجرة فضلت الاندماج والتعايش مع المجتمعات الجديدة, وهي في الحقيقة خسارة كبيرة لا تعوض سيما وأن عدد النخب من الكفاءات العلمية والفكرية المهاجرة قدر بنحو (71352) مهاجراً, من بينهم(4061) عالماً عراقياً في مختلف التخصصات, ناهيك عن الطابع النخبوي الآخر للجالية المهاجرة التي تضم كبار التجار ورجال الأعمال والمستثمرين في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
أما على صعيد الدول المستقبلة للمهاجرين, فإن المعطيات تشير إلى حقائق مؤلمة ومريرة عندما نجد اللاجئين العراقيين موزعين على أكثر من 90 دولة في مختلف بقاع العالم, بعضها بلدان فقيرة لا تستطيع توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها, فما بالك بالوافدين وطالبي اللجوء, لاشك أنهم سيعانون الأمرين للتكيف مع أنماط الحياة السائدة في مثل تلك الدول, والأمر من ذلك, ان معظم عمليات النزوح ارتبطت بالخصائص الأثنوغرافية للسكان بناءً على تركيبهم الاثني (الديني والقومي) لاسيما بعد شيوع مظاهر العنف والقتل والاختطاف وغياب السلم المجتمعي, بدليل أن هجرة المسيحيين شكلت نسبة (32.06%) من إجمالي حجم المهاجرين للخارج, يليهم الإيزيديين بنسبة (4.38%), ثم الصابئين بنسبة (0.31%), وأقليات أخرى بنسبة (0.13%), أما فيما يتعلق بالانتماء القومي للمهاجرين, فإن العرب يشكلون نسبة (83.78%) من إجمالي حجم المهاجرين, ونحو(86.86%) من إجمالي عدد الوافدين, يليهم الشبك بنسبة (7.24%) من المهاجرين, وحوالي(5.53%) من الوافدين, ثم التركمان بنسبة (6%) من المهاجرين, مقابل (4.19%) من الوافدين, في حين تنخفض مساهمة القوميات الأخرى في الهجرة الخارجية بنسب متفاوتة تتماشى مع حجم أبناء هذه القوميات, وتبدو هذه النسب كبيرة جداً إذا ما قورنت بحجم هذه الطوائف التي لا تتعدى نسبتها (5%) من إجمالي سكان العراق.
والملاحظ أن ميزان صافي الهجرة الخارجية أظهر خسارة كبيرة جداً للأقليات الدينية في العراق, لأن معظم المهاجرين فضلوا البقاء في الخارج على العودة إلى بلادهم بعد الظلم والاضطهاد الذي تعرضوا له خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق, وحسبنا أن نشير هنا إلى عمليات الإبادة الجماعية الأخيرة والمجازر التي ارتكبت بحق الأيزيديين والمسيحيين في سنجار وتلعفر وسهل نينوى ومناطق أخرى متفرقة على أيدي عصابات داعش الإجرامية عام 2014, التي راح ضحيتها آلاف الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال, ناهيك عن تعرض الكثير منهم للتعذيب والمضايقات والاعتداءات بشتى أنواعها, وارغامهم على الارتداد عن دينهم قسراً, وتدمير مناطقهم وهدم منازلهم وأماكنهم المقدسة ومزاراتهم الدينية, والاستيلاء على أموالهم وممتلكاتهم بطرق غير مشروعة.
ولعل المتأمل لميزان صافي الهجرة الخارجية يدرك حجم الخسارة الكبيرة لمكونات الطيف العراقي الدينية والقومية الصغيرة, ويا لها من خسارة لا تعوض, كون هذه الأقليات تمثل النسيج الاجتماعي العراقي الأصيل, وكانوا ولازالوا يرفدون العراق بكل ما هو جميل, فمنهم العلماء والأطباء والسياسيون المناضلون من أجل حرية الشعب العراقي والأساتذة الأفذاذ في كافة المجالات، فهم بمثابة الألوان الزاهية في خريطة العراق السكانية التي نروم تمثيلها ونسعى للحفاظ عليها, وعليه ينبغي على الحكومة المركزية والمنظمات غير الحكومية المعنية بهذا الشأن إيلاء مزيد من الاهتمام بهذه الشرائح التي تعد ركيزة أساسية من ركائز التنمية وبناء المجتمع, ووضع خطط علمية شاملة ومدروسة لإيقاف هجرة جميع مكونات الشعب العراقي وتشجيع المغتربين منهم في الخارج على العودة إلى بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم.