ataba_head

عقلنة الخطاب الديني في مواجهة التطرف وعنفه

عقلنة الخطاب الديني في مواجهة التطرف وعنفه

الأستاذ المساعد الدكتور

رائد عبيس

جامعة الكوفة

 

 

تعتمدُ المعرفةُ الدّينية الحقيقية على العقل في القبول, والتسليم, والاعتقاد, والتفكير, وعليه تتعدد أدوات المعرفة وموضوعيتها, بين الطبيعة وعالمها, وبين الإنسان وخلقه, أو الانشغال بالذات الإلهية وتجلياتها.

هذه الموضوعات كانت وما زالت موضع بحث واهتمام , فيها ما هو عقلاني, وما هو غير عقلاني, وعبر تطور الزمن, وتطور مراحل التأريخ وصيرورته, تغيّرت كثير من الأحكام اتجاه الدين منذ تجاوز بها الإنسان مرحلة الأسطورة التي اختلطت بالتفكير الديني وانصرف به عن عقلانيته, وكذلك الحال مع مرحلة التفكير الديني غير السماوية طغت فيها الهرطقات, والأفكار الميثولوجية التي تحاكي الآلهة بطريقة الصلة الإيحائية والعلاقات الصوفية.

أما مرحلة الديانات السماوية المنزلة بالوحي, والكتب, والرسل, فلها مرحلتها الواضحة, المخاطبة للعقل والفطرة معاً.

كان فيها الخطاب الديني يستند إلى بديهيات العقل البشري ومسلماته الواقعية, كمحاولة لتنظيف العقول من براثن الأسطورة, والتبعية العمياء للموروث الديني المصادر للعقل, فجهد الدين والرسالات السماوية كان مع هدف تحرير العقول وفك رهانها من الواقع الذي ينافيه.

فمنهجية التفكر, والقراءة, والتدوين, والحفظ, والحوار, كانت متبعة عند الغالبية من دعاة الدين الأوائل, ومازالت متبعة عند المعتدلين منه بشكل خاص, وهذا ما يتعلق بأسس الدين واسمه, أما الفرعيات العقدية, هي مصدر خلاف, وتراشق, وتصاعد في الوتيرة الخطابية بين الخصوم أو الفرقاء ايديولوجياً.

وهنا تمكن مشكلة الدين عندما يكون ايديولوجيا لفئات ومجاميع, فالعقلانية هنا تتغير وتتحول من كونها نسق عام وشمولي إلى عقلانيات متشظية تقابل كل منها نقيضها, وبهذا المستوى نجد أن الخطاب الديني يمر بأزمة في توجيه اتباعه , وكذلك في علاقته مع الايديولوجيات الفرعية المنبثقة منه , أو مع الديانات الأخرى السماوية وغير السماوية.

قد تمرُّ بما تقدم كل البيئات الدينية في العالم, فهي تتعرض في العادة لنفس المشاكل التي يمر بها غيرهم, والتي يشتركون بها جميعاً على وجه التحديد هي مشكلة الخطاب الديني واحتواء أزماته, لكي لا يؤثر على السلم المجتمعي أو يؤثر على الدين وجوهره من الانحراف والتغيير في البنى العقائدية لها.

العراق القديم, وبيئته المسيحية, والإسلامية, لا سيما مرحلته المعاصرة, مر بمتغيرات في الخطاب الديني بين الاعتدال والتطرف, أثرت بشكل ملحوظ على راهنه الذي بقي ينسخ نفسه منذ ترسمت حدوده الحديثة وإلى اليوم , بين تفكير في الخطاب الديني عابر لحدوده, أو محلي يمثل حالة تكسب صفة الخصوصية, لما تمثله مؤسسته الدينية من جانب, وما يتمثل به من تنوع في الانتماءات الدينية, والتوجهات العقدية من جانب آخر.

بعض المؤسسات الدينية إن صح تسميتها كذلك, بعلاقتها مع السلطة الحاكمة ونظامها منذ عهد الملكية وإلى عهد الديمقراطية بعد 2003, ومثل هذه المؤسسات أو بعضها أخذت تُغيّر خطابها الديني تبعاً لسياسة تلك الأنظمة, وتبعيتها لها, ومدى تحالفها معها, أو ولائها لها, فيما بقيت مراكز دينية تحاول أن تنأى بنفسها عن ولاءاتها للسلطة أو تأييد أي من هذه الأنظمة. إذا لم تكن قد خطت لنفسها طريق المقاطعة, أو المعارضة, أو الصدام المباشر مع السلطة.

وفي كل الظروف يجب أن لا يغيب صوت العقل ومنهجيته عن أي مركزية للدين , ونقصد هنا “بعقلانية الدين” أن لا يتجاوز فيها المتصدي للخطاب الديني عن الحق فعندما يقترن الخطاب بالحق يفهم منه, وتسود فيه, العقلانية ويُحسن قبوله, وتلقيه.

فالعبرة بالخطاب وعقلانيته أن يكون عميق المصدر, سليم المرجع, قوي في اختيار أداته ووسيلته, ونحن نعلم بأن الخطاب الديني له أدوات عدة تبعا للمراكز الدينية ومرجعياته, منها التقليدي ابتداءً من المنبر, والمبلغ, والداعية, ومنها الحديث أو المعاصر مثل: وسائل التواصل الاجتماعي, المواقع الإلكترونية, التلفاز, والإذاعات, والوسائل المكتوبة, والمسموعة وغيرها.

كل هذا متاح وله آثاره البطيئة أو السريعة, القوية أو الضعيفة, المهمة أو الثانوية, يبقى السؤال فيها, هو كيف نستخدمها بعقلانية من أجل بيئة معتدلة, ومتصالحة, وأليفة؟ إجابة هذا السؤال تنطلق من المسؤولية, والإخلاص, والأمانة التي يتمتع بها رجل الدين, في تأدية دوره الإيماني, العقلاني, المسؤول اتجاه ربه والمجتمع.

قد يُستخدم الخطاب الديني بطريقة شرسة بين خصوم المذاهب فيما بينها, أو الخصوم الدينين بين اتباع الديانات المختلفة, أو بين الايديولوجيات الدينية السياسية حتى تصل إلى مرحلة الحرب, والاقتتال, والعمليات المسلحة المختلفة, وقد تسخّر لها كل المنصات الإعلامية, والمنابر, والحوارات, والبرامج التلفزيونية, والإذاعية والمنصات الإلكترونية المختلفة .

وقد جسّد مثل هذا الخطاب التنظيمات المتطرفة, والقاعدة و داعش الذي يحمل أجندات سياسية عنيفة, ومريبة مدعية الانتساب للدين الإسلامي, أو هي تتمظهر به خادعة بذلك آلاف السذج من الذين يؤمنون بالخطاب الأحادي للدين, وهو الجهاد المزيف بأحكامه الباطلة, ضد أضدادهم المذهبيين أو أتباع الدين الواحد.

هذه التجارب الذي مر بها المجتمع العراقي مع الخطاب الديني جعلت منه مجتمع ضحية للخطاب المتطرف مرة, ومنتصر عليه مرة أخرى, ومن أجل إيجاد بيئة معتدلة بمنهج تربوي, وطني, وعقائدي, وإنساني, ننشر فيه ثقافة العقلانية, والتسامح, ونبذ التطرف وقطع دابره, عبر مناهج تعليمية, وتربوية, واجتماعية, ودينية عامة يتفق عليها الجميع , لخلق حالة من التسامح, والقبول للآخر بعيداً عن مشاريع التطرف وإرهابه.