صناعة العقل المتطرف
أ.د. حسين الزيادي
جامعة ذي قار
لا يقف التّطرف في العادة عند حد الفكر المتشدد المنطوي على نفسه والرافض للآخر، ولو كان هكذا لهان أمره، بل سرعان ما يتطور إلى مرحلة فرض الرأي وتطويع الآخرين قسراً لإجبارهم على اعتناق أفكار وآيدولوجيات الفكر المنحرف.
وإن ظاهرة التطرف التي تجتاح قطّاعاً واسعاً من الشباب المسلم تحوّلت إلى مأساة حقيقية تضرب جسد الأمة شرقاً وغرباً، وتزيد من ويلاتها ومصائبها وتهدد أمنها واستقرارها، ويخطأ من يتصور أن الفكر المتشدد حركة عابرة تأتي صدفة وتأخذ حيزاً مكانياً وسرعان ما تتلاشى، فهذه الجماعات لها آلياتها الهجومية ووسائلها الاقناعية وأساليبها التحريفية التي لا يستهان بها، والتي تتطلب فكراً مضاداً وتخطيطاً سليماً للوقاية من خطرها وخشية الوقوع في شباكها، وقد نجحت الجماعات المتطرفة بفعل ما تمتلكه من أدوات منحرفة من اختراق عقول بعض الشباب وتحويل الإنسان المسالم إلى كائن بليد المشاعر يرتكب أبشع الجرائم باسم الدين والإله وإحياء السنة، وربما يقتل أصوله في سبيل تحقيق أهدافه وترجمة مبادئه، فالفكر المتطرف هو نتيجة بشعة لعملية بيولوجية تستهدف الإنسان والمجتمع والإنسانية، لذا تكمن أهمية المعركة الحقيقية لمكافحة الفكر المتطرف في الأفكار والأساليب التي يستخدمها الإرهابيون لتجنيد الشباب وصناعة العقل المتطرف، فإذا لم نتمكن من مواجهة تلك الأساليب، فالحرب لن تنتهي والخسائر ستكون أكثر فداحة، لذلك يجب أن تركز الجهود على مكافحة أصحاب الخطابات المتطرفة الفعالة، بمعالجتها بأسلوب الوقاية لدي الشخص المتلقي نفسه ومن ثم اجهاضها في مهدها، وفق مبدأ الوقاية خير من العلاج.
التطرف في الأساس هو إنكار لحقوق الإنسان، والحرب ضد التطرف لن يكتب لها النجاح بدون اقتلاع جذور التطرف وتحطيم الأسس الفكرية والمرتكزات الآيدلوجية التي يعتمد عليها، فالخطوة الأولى التي يتخذها هذا الفكر هو إلغاء التفكير النقدي , فالفكر بحسب التطرف كفر وزندقة وبدعة وخروج عن الملة، أما الخطوة الثانية فهي استخدام (عذاب جهنم) لإحباط أي تفكير في الاعتراض والنقد، فكلما تساءل العقل استحضرت آيات العذاب، فتكون النتيجة الاتباع الأعمى في كل ما يلقنونه أو يضعونه في العقول.
حين يتأمل المرء كثيراً في المشكلات التي يتأبطها العديد من أفراد المجتمعات والتي تسارعت إيقاعات تطورها وتناميها يدرك بأنها قد كرست إشكاليات عدة تعاني منها هذه المجتمعات في ظل عدم مصداقية العديد من الأنظمة السياسية لاحتوائها، فضلاً عمّا أفرزته الثورة المعلوماتية الكاسحة وتقنياتها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقود الثلاثة من القرن الحادي والعشرين من تحديات طالت سكان العالم في عقر دارهم، وتمثلت فيما تمثلت من تهديدات على القيم والمبادئ والأخلاق والثقافة والحياة الاجتماعية بمفاهيمها ومجالاتها المختلفة، وفي ضوء تلك التعقيدات وغيرها كثير يحاول الفكر المتطرف أن يختار عناصره من بيئات تعاني مشاكل اجتماعية وتحديات على المستوى الشخصي والنفسي والعقائدي، فالشباب الذي لا يجد فرصة للعمل أو كان ضحية لعوامل التفكك الأسري أو العنف أو عمالة الأطفال أو تعرض إلى اليتم والإهمال ورفض المجتمع وغيرها من العوامل يعدّ بيئة خصبة لتغلغل الفكر المتطرف، وبالتالي الانغماس الكلي في مبادئه الضالة، والطفل الذي تعرض للعنف في طفولته سيكون مسرحاً للتغيرات النفسية والعاطفية والصحية، وتبدأ التغيرات بالوقوع مطبات التوتر النفسي، وفقدان الثقة في النفس، وجلد الذات، والاكتئاب، وتنتهي بالميول العدوانية، وكراهية الآخرين، وممارسة العنف ضدهم، وبالتالي الوقوع فريسة للفكر المتطرف، أما النساء فهذا الفكر يبحث عن النساء المصابات بصدمات نفسية بسبب الاغتصاب أو الإجهاض أو الطلاق أو العنف أو اللائي تعرضن لأي شكل من أشكال الاستغلال الجنسي أو البغاء ، فيتم تجنيدهم باستغلال تلك الظروف، وتكون كراهية المجتمع دافع لهن للانخراط في ظلمات الفكر المتطرف ، ويعتقدنّ بمحاربة المجتمع الذي أهان كرامتهن ولم يوفر لهن اسس الحياة الكريمة، ويحاول الفكر المتطرف أن يجعل من الشخص الضحية وكأنه شخصية البطل الشجاع الذي يحارب الشر.
فضلاً عما تقدم فإنه يتم التأكيد من قبل الفكر المتطرف بأن هذه الحياة الدنيا لا قيمة لها، وأن الهدف هو الآخرة، وأنه لا ضمان في الجنة والعتق من عذاب النار إلا بقتل أعداء الله المشركين، كما يصورهم الفكر المتطرف.
الفكر المتطرف ليس مرضا يمكن علاجه أو سرطانًا يمكن استئصاله من الجسد المادي، لذا لا بد من كسر الحلقة المفرغة التي تؤدي إلى التطرف وهذا يتطلب تغيير وتعديل العوامل البيئية التي تغذيه أولاً، ومن جهة أخرى يجب معالجة قضايا المجتمع ومشاكله الاجتماعية التي ازدادت حدة في ضوء تعقد الحياة الحضرية فضلاً عما أنتجته التكنولوجيا ووسائل التواصل من مستجدات، وفي سبيل مواجهة التطرف على أرض الواقع، فإن التحدي الأكبر أمام المجتمعات الإسلامية يتجلى في كيفية إصلاح الخطاب التعليمي والديني والإعلامي، الذي يحرض على الطائفية، كما يعني ذلك أن الانتصار على التطرف هي معركة من أجل كسب عقول الشباب وأعماقه، حيث إن الفكر المتطرف يسعى الى اجتذاب هؤلاء لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ومن الواجب على الوالدين والمعلمين غرس الانتماء لله ورسوله وأهل بيته الأطهار، وبث روح الوسطية التي تميّز بها دين الإسلام، والبعد عن مناهج الغلو والتطرف والتكفير، ويتطلب الأمر غرس لغة التسامح في النفوس, ومفهوم الحوار الهادف، واحترام الرأي الآخر، وتبيان خطورة الفكر المتطرف ودعاته ومنظريه، وتنمية الحس الوطني، وحب الوطن، والمحافظة على أمنه واستقراره.